توفيق وجورجيت

10 نوفمبر 2014
يتنافسون للوصول إلى كشكها (كريس بورونكل/ فرانس برس)
+ الخط -

ظلّ دوماً مؤدباً. لم تحفظه الناس إلا بهذه الصورة. منذ كان مراهقاً كان محبوباً في المنطقة. ورث دكان السمانة العتيق من أبيه الذي سبق أن ورثه من جدّه. دكان السمانة، كان دائماً جزءاً من مشهد المنطقة. يحفظ منتجاته الجميع. السكاكر، والخبز الافرنجي الساخن، والألبان والأجبان.

كان توفيق بشوشاً دائماً رغم أنه لم ينل من العلم الكثير. ولم يكن حظّه مميزاً في الحياة. لم يعتبر نفسه يوماً فرداً من عائلة بقدر ما اعتبر نفسه بعض مجتمع أكبر منها، قد تكون حدوده المنطقة بأهلها وناسها.

لم ينتسب لمليشيا أو تنظيم سياسي خلال الحرب ولا بعدها. تربيته المحافظة لم تسمح له بالانجراف يوماً نحو خيار مماثل.

مارس الكاراتيه وشجع الشبان الصغار عليها كنوع من الرياضة والتسلية. تقدّم مراتب فيها، وكانت مساحته الخاصة الوحيدة بعيداً من الدكان. وتزوّج متأخراً، بعدما بلغ الأربعينات.

أسوأ ما حصل له كان خسارة الدكان الذي شكّل عمره. لم يكن باب الرزق الذي يعتاش منه فحسب، كان الذكريات والأيام الحلوة. اضطر للعمل في محل الدهان القريب، واشتغل سائقاً لباص مدرسة وأشياء عديدة أخرى، لم تخطر بباله قط. مهن لم تشبهه يوماً.

مات في حادث سخيف على دراجة نارية. ترك أرملة وطفلاً خلفه. الحقيقة أنه كان قد مات قبل هذا الحادث. مات يوم خسر الدكان حين قرّر المشترون الجدد إغلاقه وتحويله إلى مخزن.

في جنازته مشت المنطقة كلّها.

■ ■  ■

كانت جورجيت أمّاً في مكانين وُضعت فيهما. البيت والمدرسة. ما اهتمّت يوماً بأكثر من هاتين العائلتين. الأولى صغيرة بتعداد زوج وولدين، والثانية ضمّت مئات التلامذة.

كانت السيدة الخمسينية الصورة الحلوة لفرصة الساعة العاشرة لدى التلامذة. يتنافسون للوصول إلى «كشكها»، حيث تبيع المناقيش والمرطبات والسكاكر. والمحظوظ من يصل أولاً فيفوز بالكرواسون الساخنة بالجبن أو الزعتر. ومع أن جسدها كان هزيلاً دوماً ومثقلاً بما حمّلته السنون، غير أنها ما تغيبت يوماً أو توقفت عن الابتسام في وجه التلامذة والعطف عليهم. من لا يملك المال يستطيع أن يدفع غداً.  كانت جورجيت صورة المدرسة وناسها. صورة رقيقة وحساسة. صورة الأم التي ما يكاد التلامذة يتركونها في المنزل حتى يلاقونها مجدداً في المدرسة، تعطف وتنصح وتجعل الحياة أحلى.

يوم مرضت وغادرت المدرسة إلى الأبد، افتقدتها عائلتها الصغيرة، وخسرت حنوّها عائلة كبيرة من أجيال. تركت فراغاً أكبر بكثير من مساحة في كشك خشبي في ملعب مدرسة، مقابل شجرة جمّيز عتيقة جلس النبي إلياس في ظلّها يوماً.

دلالات
المساهمون