تل الزّعتر: رحلة البحث عن مخيّم

02 ديسمبر 2014
في الطريق إلى تلّ الزعتر (حسين بيضون/العربي الجديد)
+ الخط -
خلال مدّة قصيرة، تشاء الصدف أن يُذكر مخيم تل الزعتر أمامي أكثر من مرّة. تسألني رائدة، صديقتي الفلسطينية ـ الأردنية المقيمة في بيروت، عن موقع المخيّم. أجيبها: "لم يبقَ له وجود منذ المذبحة في عام 1976". فتقاطعني: "أعلم، ولكن أين كان تلّ الزعتر؟ وماذا حلّ بالأرض التي كان عليها؟".

المنام ذاته
أذهب إلى كميليا الخياطة، وهي فلسطينية ستينية. تخبرني بأنَّها رأت الليلة في منامها أخاها الصغير إبراهيم، الذي ضاع أثره في معارك تلّ الزعتر. المنام ذاته يتكرَّر منذ اختفائه: تراه عائداً من رعب المجازر، بثيابٍ رثّة، يطرق باب البيت، تفتح له فيسقط أرضاً. في المنام ما زال إبراهيم في عمر الثانية عشرة، ورغم سعادتها بزياراته المتقطعة، إلا أن كميليا تستيقظ مرعوبة. تبكي بحرقة: "لماذا لا يمهلني المنام لحظات قليلة حتى أصلح له ملابسه؟".

الطريق إلى الدكوانة
أشارك في دورة تدريبية في منطقة الدكوانة. أسأل المشاركين من أهل المنطقة عن مخيَّم تل الزعتر، فلا أجد جواباً. يستغلُّ أستاذنا الشاب، ذو اللهجة اللبنانية البيضاء التي لا تشي بأيّ انتماء، وقوفي وحيدة على الشرفة، فيحقّق معي، ثم يقول لي: "أنا فلسطيني مسيحي، عائلتي فقدت أكثر من 40 شخصاً في أحداث تلّ الزعتر. جدّي كان من بين الناجين، وكثيراً ما روى لنا ذلك المشهد الرهيب عندما اقتحم المسلّحون المخيم. أخذوا أصغر أحفاده الذي لم يكمل أشهره الثلاثة، رموه عاليا في الهواء، وتباروا في إطلاق النار عليه كعصفور". أسأله عن مكان المخيم اليوم، فيلتفُّ عائدا إلى غرفته بسبَّابة مصلَّبة على فمه بأن ننهي التحقيق والاعتراف.

هكذا تتحوّل أخبار هذا المخيم إلى طعم يجرُّني في رحلة بحث عنه. أتصل برائدة التي تتحمّس للفكرة، خصوصاً أنّ أختها ريم في ضيافتها، هي وصديقها الأميركي إيريك. نتّفق أربعتنا على موعد، فيصادفنا يوم ربيعيٌّ مشمسٌ من نهارات بيروت الجميلة.

زحمة سير خانقة رافقتنا من وسط بيروت حتى المتحف، وصولا إلى جسر الفيات، ومن ثمَّ إلى مستديرة المكلّس. نصل إلى الدكوانة، على يميننا تل وطريق تأخذ صعوداً، وعلى يسارنا كاليري للمفروشات مقفل. الحفريات نبشت باطن الأرض ولم تدع للمشاة منفذا. رجل وحيد يهرول بجانبنا يلبس ثياباً رياضية بيضاء من رأسه حتى أخمص قدميه.

مسرح الجريمة
- "مرحبا، هل تعرف أين كان مخيم تل الزعتر؟". يبتسم بلطف ويشير بإصبعه: "من هون، طلوع".
- "شكرا"، أقول، لكنّه يضيف: "أنا شاركتُ في معارك تلّ الزعتر، من بعدها هربت إلى السويد.. كان يجب أن أنسى، لو لم أهرب إلى السويد لكنت قد جننت!".

حاولنا استبقاءه، لكنَّه رفض. لوّح بيده وأكمل رياضته ركضاً. حاول إريك الاستفسار عن سبب صدمتنا، لكنّنا أهملناه ورحنا نهذي: "كيف تركناه يروح؟"، "كان لازم نحكيه أكثر!"، "مستحيل كان يحكي أي شي!"، "راح على السويد حتى ينسى أكيد ما رح يحب يحكي!".

كان الرجل لطيفا جداً، لكنّ كلمات قليلة كشفت حقيقة أخرى. قال إنّه هرب إلى السويد ليحافظ على لياقته العقلية، لكنّنا وجدناه هنا يركض حول مسرح الجريمة ليحافظ على لياقته الجسدية.

هل هنا يستعيد جسده شباباً ولّى؟

توجّهنا صعوداً نحو منطقة صناعية مقفرة ثم يساراً فيميناً، حيث وصلنا إلى عمارة حديثة البناء وأرض بور وجزء من التلّ الذي ما زال في أوّله يسد الطريق. أعدنا الكرّة والسؤال أكثر من مرة: "أين كان مخيم تلّ الزعتر؟".

- "مخيم تلّ الزعتر! لفوق من هنا!". يمين ويسار ويسار ويمين والنتيجة واحدة: بنايات حديثة وأرض مهملة وتلّ عقيم. هدفنا كان التقاط صورة للتلّ الذي كان في زمان ما مخيّماً. ثم عُدنا إلى حيث التقينا بالرِّياضي الأبيض وتوجّهنا صعوداً من طريق آخر. دخلنا في حيّ مكتظ وقديم، بنايات مهملة ومحلات لتصليح السيارات والأدوات الكهربائية وأشلاء معدنية تعيق صعود سيارتنا الصغيرة. أما السؤال عن مخيم تلّ الزعتر المفقود، فقد تحوّل في داخلي إلى توترٍ مبهم تغذيه شدّة ارتفاع الطريق.

الذاكرة
أصابنا اليأس فأوقفنا السيارة ونزلنا منها. قالت رائدة إنّنا لن نتمكّن من التقاط الصورة إلا من فوق سطح بناية تكشف لنا المنحدر. لم أستسغ الفكرة. لكن ريما وبسرعتها المعهودة هرولت إلى حيث تقف سيّدة من ساكنات الحي، وبلهجة فلسطينية لا لبس فيها سألتها: "ممكن نطلع على سطح بنايتكو وناخد صورة؟". المرأة تفاجأت.. وأنا أيضاً. اقتربتُ من رائدة وغمزتها بأن نرحل من هنا، فاستغربت قلقي. صرخت السيدة بأعلى صوتها: "طوني! طلاع شوي، في ناس حابّين يطلعوا على سطح البناية ويصوّروا!". ثوانٍ وكان طوني أمامنا، ودوداً ومبتسما، حلَّ اللغز: "المخيّم لم يكن هنا، تلّ الزعتر فوق، على أرض المطار".

ـ"المطار؟! أيّ مطار هنا؟!".

ـ"مطار عسكري للجيش اللبناني، طلعوا شوي بتلاقوه". مشينا صعودا باتجاه "المطار" والأسئلة تتزاحم في رأسي: لماذا هذا القلق؟ ما المشكلة في صورة لذاكرة قديمة شملها العفوُ العام، وبات الكلّ راضياً وسعيداً؟

وصلنا إلى المطار. أخيراً انتهى التلّ وانفتح الأفق. هناك وجدت إجابة لأسئلتي: إنها الذَّاكرة.
دلالات
المساهمون