ثمة من رأى أن الأوضاع الراهنة التي نعيشها كفلسطينيين في الوطن الجغرافي تحت وطأة محصلة أداء القيادة المتنفذّة، فيها ما يحيل إلى الشخصيات في التراجيديا الإغريقية.
وهي رؤية تستند في الباطن إلى أرسطو، الذي عدّ أن العنصر الأخير في التراجيديا هو الفاجعة أو المعاناة التي يكابدها البطل بعد وقوعه في الإثم، وقد عرّفها بأنها "حادث مُدمّر أو موجع مثل الموت أو الألم الفظيع أو الجراح المُهلكة أو ما شابه ذلك".
لكن على عكس التراجيديا الإغريقية حيث تكون الآلهة أقوى من البشر ولا رادّ لقضائها المحتوم، ففي أوضاعنا الحلّ يبقى في متناول البشر.
وتبدو مؤشرات الإدراك بشأن مصير الحلّ جليّة في الميدان من خلال الأحداث الآنية التي تتصاعد في الآونة الأخيرة.
ويوماً بعد آخر، تتراكم وجهات نظر ثقافية حيال تلك الأحداث وما تعنيه في سياق الصيرورة الفلسطينية حتى من داخل مرجل المواجهة الساخنة، برغم ما تعنيه هذه المواجهة من تأجيج لكل ما هو غير ثقافي.
اقرأ أيضًا: عن الشاعرية
تحضرني منها الآن وهنا وجهة النظر التي ترى أن التعامل مع الفلسطيني كبشر يتطلب أكثر من أي شيء آخر قدرًا كبيرًا من الإنسانية.
وعندما حاولت صاحبة وجهة النظر هذه - عالمة الاجتماع إيفا إيلوز- أن تجيب عن سؤال "ما هي الإنسانية"؟، رأت أننا قد نتمكّن من الوصول إلى إجابة شافية إذا ما تفحصنا نقيض "الإنسانية"، أي انعدام الإنسانية.
وفي نطاق فحصها هذا نوّهت بأن آخر البحوث الاجتماعية التي اطلعت عليها توصلت إلى الاستنتاج بأنه يمكن التعامل مع الناس على نحو "غير إنساني" وفقًا لأربعة أنماط مغايرة: أولاً، التعامل معهم كأشياء بمعنى تشييئهم؛ ثانيًا، التعامل معهم كآلات؛ ثالثًا، التعامل معهم كحيوانات؛ رابعًا، التعامل معهم كما لو أنهم "دون البشر" أي دونيين، بما في ذلك التعامل مع الكبار والمتقدمين في السنّ على أنهم أطفال.
وهناك من يعتقد أن السبب في عدم التعامل مع أقسام من الناس كبشر، يكمن في عدم رؤيتهم كبشر بكليتهم أو بكامل كينونتهم.
وقد لفتني أخيرًا، على خلفية أحداث آنيّة سابقة أيضاً، أنه باستثناء إيلوز أورد مثقفون يهود من إسرائيل مثالًا على ذلك من خلال التعامل مع الفلسطينيين في مناطق 1948، الذي في إطاره تتجاهل النظرة الصهيونية إليهم وجودهم في حدّ ذاته. وتمثّلت خلاصتهم بأن هذه النظرة تنبع من عدم رؤيتهم كجزء من مجتمع، وحتى حين تتم رؤيتهم كجزء من مجتمع فإن ذلك يجري فقط بصورة سلبية إذ يُنظر إليهم كتهديد وكعدو أو كأناس دونيين ومتخلفين.
من هنا فإن انعدام الإنسانية يعني انعدام القدرة على النظر إلى الآخرين بصورة محدّدة جداً، أي كبشر كاملين في إنسانيتهم مبنًى ومعنًى.
اقرأ أيضًا: عن الحقيقة الحقيقية
لعلّ الأهم من هذا التشخيص هو ما استتبعه من استنتاج، مؤدّاه أن رؤية البشر بمثل هذه الصورة هي مسألة عادة، أو سلوك متراكم نتيجة عوامل كثيرة في مقدمها التنشئة الاجتماعية، وليست قراراً واعياً أو مُدركاً. كما أن مثل هذه النظرة هي نوع من المهارة الأخلاقية التي تُكتسب بصورة غير مدركة من خلال العينين. بناء على ذلك فإن العينين هما إذًا عضو أخلاقي يمكن تدريبه سواء من ناحية إدراكية أو من ناحية أخلاقية. ومثل هذا التدريب يظلّ بدوره متوقفاً على البنية والقيم السياسية إن لم يكن مرهونًا بهما. وفي هذا المعنى يمكن التحدّث عن أخلاقية وسياسة النظرة، وإلى أي حد نلاحظ الآخر، وكيف نراه بالمقارنة مع رؤيتنا لأنفسنا، وبالتالي فإن الحدّ الكامل أو الجزئي الذي نعترف به بوجود الآخر هو مهارة أخلاقية.
وإلى هذه المسألة تحديدًا يشير الشاعر عبد الكريم الطبال ضيف حوار "ملحق الثقافة" لهذا الأسبوع.
طبعًا يمكن أن نستطرد في تفكيك وجهة النظر هذه التي تحمل في أحشائها وجهات نظر متعدّدة أخرى. غير أنني سأكتفي بالإشارة إلى استنتاج مهم آخر يقول إنه في القرن الثامن عشر، حين تبلورت رؤية عالمية حيال البشر، تبلورت في الوقت ذاته رؤية مفادها أن القاسم المشترك بين الناس كافة هو المعاناة الجسدية، ولذا أضحت الرأفة رويدًا رويدًا شرطًا أساسيًا للأخلاق والسلوك العام.
وتشكل الرأفة أو الإقرار بمعاناة الناس الآخرين الوسيلة التي تتيح تذكر إنسانية الآخر. من هنا فإن التصرّف بصورة "غير إنسانية" يعني بكل بساطة عدم رؤية الآخر، والإنكار التام لوجوده في الحجرة والحيز، والتنكر لمعاناته وحساسيته، وعدم الاستجابة أو عدم الإحساس بمعاناته.
لكن على عكس التراجيديا الإغريقية حيث تكون الآلهة أقوى من البشر ولا رادّ لقضائها المحتوم، ففي أوضاعنا الحلّ يبقى في متناول البشر.
وتبدو مؤشرات الإدراك بشأن مصير الحلّ جليّة في الميدان من خلال الأحداث الآنية التي تتصاعد في الآونة الأخيرة.
ويوماً بعد آخر، تتراكم وجهات نظر ثقافية حيال تلك الأحداث وما تعنيه في سياق الصيرورة الفلسطينية حتى من داخل مرجل المواجهة الساخنة، برغم ما تعنيه هذه المواجهة من تأجيج لكل ما هو غير ثقافي.
اقرأ أيضًا: عن الشاعرية
تحضرني منها الآن وهنا وجهة النظر التي ترى أن التعامل مع الفلسطيني كبشر يتطلب أكثر من أي شيء آخر قدرًا كبيرًا من الإنسانية.
وعندما حاولت صاحبة وجهة النظر هذه - عالمة الاجتماع إيفا إيلوز- أن تجيب عن سؤال "ما هي الإنسانية"؟، رأت أننا قد نتمكّن من الوصول إلى إجابة شافية إذا ما تفحصنا نقيض "الإنسانية"، أي انعدام الإنسانية.
وفي نطاق فحصها هذا نوّهت بأن آخر البحوث الاجتماعية التي اطلعت عليها توصلت إلى الاستنتاج بأنه يمكن التعامل مع الناس على نحو "غير إنساني" وفقًا لأربعة أنماط مغايرة: أولاً، التعامل معهم كأشياء بمعنى تشييئهم؛ ثانيًا، التعامل معهم كآلات؛ ثالثًا، التعامل معهم كحيوانات؛ رابعًا، التعامل معهم كما لو أنهم "دون البشر" أي دونيين، بما في ذلك التعامل مع الكبار والمتقدمين في السنّ على أنهم أطفال.
وهناك من يعتقد أن السبب في عدم التعامل مع أقسام من الناس كبشر، يكمن في عدم رؤيتهم كبشر بكليتهم أو بكامل كينونتهم.
وقد لفتني أخيرًا، على خلفية أحداث آنيّة سابقة أيضاً، أنه باستثناء إيلوز أورد مثقفون يهود من إسرائيل مثالًا على ذلك من خلال التعامل مع الفلسطينيين في مناطق 1948، الذي في إطاره تتجاهل النظرة الصهيونية إليهم وجودهم في حدّ ذاته. وتمثّلت خلاصتهم بأن هذه النظرة تنبع من عدم رؤيتهم كجزء من مجتمع، وحتى حين تتم رؤيتهم كجزء من مجتمع فإن ذلك يجري فقط بصورة سلبية إذ يُنظر إليهم كتهديد وكعدو أو كأناس دونيين ومتخلفين.
من هنا فإن انعدام الإنسانية يعني انعدام القدرة على النظر إلى الآخرين بصورة محدّدة جداً، أي كبشر كاملين في إنسانيتهم مبنًى ومعنًى.
اقرأ أيضًا: عن الحقيقة الحقيقية
لعلّ الأهم من هذا التشخيص هو ما استتبعه من استنتاج، مؤدّاه أن رؤية البشر بمثل هذه الصورة هي مسألة عادة، أو سلوك متراكم نتيجة عوامل كثيرة في مقدمها التنشئة الاجتماعية، وليست قراراً واعياً أو مُدركاً. كما أن مثل هذه النظرة هي نوع من المهارة الأخلاقية التي تُكتسب بصورة غير مدركة من خلال العينين. بناء على ذلك فإن العينين هما إذًا عضو أخلاقي يمكن تدريبه سواء من ناحية إدراكية أو من ناحية أخلاقية. ومثل هذا التدريب يظلّ بدوره متوقفاً على البنية والقيم السياسية إن لم يكن مرهونًا بهما. وفي هذا المعنى يمكن التحدّث عن أخلاقية وسياسة النظرة، وإلى أي حد نلاحظ الآخر، وكيف نراه بالمقارنة مع رؤيتنا لأنفسنا، وبالتالي فإن الحدّ الكامل أو الجزئي الذي نعترف به بوجود الآخر هو مهارة أخلاقية.
وإلى هذه المسألة تحديدًا يشير الشاعر عبد الكريم الطبال ضيف حوار "ملحق الثقافة" لهذا الأسبوع.
طبعًا يمكن أن نستطرد في تفكيك وجهة النظر هذه التي تحمل في أحشائها وجهات نظر متعدّدة أخرى. غير أنني سأكتفي بالإشارة إلى استنتاج مهم آخر يقول إنه في القرن الثامن عشر، حين تبلورت رؤية عالمية حيال البشر، تبلورت في الوقت ذاته رؤية مفادها أن القاسم المشترك بين الناس كافة هو المعاناة الجسدية، ولذا أضحت الرأفة رويدًا رويدًا شرطًا أساسيًا للأخلاق والسلوك العام.
وتشكل الرأفة أو الإقرار بمعاناة الناس الآخرين الوسيلة التي تتيح تذكر إنسانية الآخر. من هنا فإن التصرّف بصورة "غير إنسانية" يعني بكل بساطة عدم رؤية الآخر، والإنكار التام لوجوده في الحجرة والحيز، والتنكر لمعاناته وحساسيته، وعدم الاستجابة أو عدم الإحساس بمعاناته.