تحولات في الرأي العام والسياسي البريطاني لصالح "بريكست مخفف"

21 ديسمبر 2017
مطالبة لماي للإسراع ببناء تحالف مع نواب العمال(Getty)
+ الخط -

لا تزال نتائج الهزيمة البرلمانية التي تلقتها الحكومة البريطانية الأسبوع الماضي في مجلس العموم تتفاعل في الساحة السياسية البريطانية، إذ أدّت إلى إضعاف الموقف المؤيد لـ"بريكست المشدد"، ودعم الأصوات المطالبة بـ"بريكست مخفف"، يبقي على بريطانيا في السوق المشتركة والاتحاد الجمركي.

وكانت حكومة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي قد تلقت يوم الأربعاء الماضي أولى هزائمها البرلمانية بعد أن نجح تمرّد أحد عشر نائباً محافظاً، وبدعم من الأحزاب المعارضة، في تمرير تعديل على قانون الانسحاب الأوروبي، يعطي الحق للبرلمان البريطاني في التصويت على صفقة بريكست النهائية. ويسمح التعديل بتحويل صفقة بريكست إلى تشريع قانوني، يحق للبرلمان مناقشة مواده والمطالبة بتعديلها قبل الخروج الرسمي من الاتحاد الأوروبي.

وخلّفت هذه الهزيمة البرلمانية ارتدادات تؤثر على مستقبل عملية بريكست بمجملها. فحتى الأسبوع الماضي، هيمنت الأصوات المؤيدة لـ"بريكست مشدد" تخرج بريطانيا بموجبه من المؤسسات والتشريعات والأطر الأوروبية كافة، لتصبح حرة تماماً في صياغة تشريعاتها وقوانينها، وبعيداً عن التأثير الأوروبي.

ويتزعم هذا التيار شخصيات سياسية من الحزب المحافظ الحاكم، منهم وزير الخارجية بوريس جونسون، ووزير البيئة مايكل غوف، وغيرهم ممن قادوا الحملة المؤيدة للخروج من الاتحاد الأوروبي خلال الاستفتاء الذي أجري في صيف 2016. وتمكّن هذا التيار من الهيمنة على قرار الحكومة البريطانية، ودفع تيريزا ماي لتبني مواقف أقرب إليه، مستغلين ضعف حكومتها، إذ إن حكومة ماي الحالية لا تمتلك الأغلبية البرلمانية، وتعتمد على توازن يجمع التيارين المؤيد والمعارض لـ"بريكست مشدد" في حزبها في حكومتها، ودعم برلماني من الحزب الاتحادي الديمقراطي الإيرلندي الشمالي.

وانطلاقاً من حجة تسهيل سير عملية التفاوض، نجحت الحكومة البريطانية في تمرير قانون الانسحاب من الاتحاد الأوروبي في سبتمبر/أيلول الماضي، والذي يمنحها سلطات تشريعية واسعة ومن دون العودة إلى البرلمان أو مراقبته، مستندة في ذلك إلى الانضباط الحزبي الذي يعرف به حزب المحافظين. ولكن التمرد الذي قام به أحد عشر نائباً من الحزب الحاكم الأسبوع الماضي كان ضربة موجعة لهيمنة الجناح المتشدد، وبادرة لصحوة التيار المعارض لـ"بريكست المشدد" في صفوف المحافظين.

وانعكس هذا الأمر في دعوة النواب المحافظين المتمردين ماي لبناء تحالف مع الأحزاب البرلمانية الداعمة لـ"بريكست مخفف". كما يأمل هؤلاء أن يؤدي نجاحهم إلى إعطاء دفعة معنوية قوية للوزراء المؤيدين لـ"بريكست مخفف"، مثل وزير المالية فيليب هاموند ووزيرة الداخلية آمبر رود، مشددين على أن نتيجة التصويت الأسبوع الماضي تدل على عدم وجود أغلبية برلمانية تدعم "بريكست المشدد".


ويسعى المتمردون أيضاً إلى رسم تحالف مع نواب حزب العمال المعارض والذي يميل في أغلبه إلى علاقات مقربة مع الاتحاد الأوروبي بعد بريكست، أو حتى إلغائه والبقاء في الاتحاد الأوروبي. وطالب المتمردون ماي بالإسراع في بناء هذا التحالف لاستغلال الانقسامات في صفوف حزب العمال. ويعتقد هؤلاء بضرورة مد اليد إلى نظرائهم في حزب العمال من المؤيدين لـ"بريكست المخفف"، والمخالفين للموقف الرسمي لجيريمي كوربن، رئيس حزب العمال. ويرى المتمردون في مثل هذا التحالف الحل الذي تحتاجه تيريزا ماي لكبح جماح مؤيدي "بريكست المشدد" في حزبه.

وعلى الرغم من أنّ حزب العمال اكتفى بتوجيه الانتقاد للحكومة المحافظة حول مفاوضات بريكست، سيضطر الحزب بعد تصويت الأسبوع الماضي إلى الكشف عن موقف موحّد من الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وبينما يؤيد كوربن الانسحاب من السوق الأوروبية المشتركة والاتحاد الجمركي، يعارضه في ذلك وزير بريكست في حكومة الظل العمالية، كير ستارمر.


كما دفع هذا الحماس معارضي "بريكست المشدد" إلى تعيين اللورد مالوك براون كمنسق لجهود الجماعات المؤيدة للاتحاد الأوروبي، لتوحيد الجهود بهدف تغيير الرأي العام البريطاني قبل حلول موعد التصويت على الاتفاق النهائي مع الاتحاد الأوروبي الخريف المقبل.

ولا تهدف هذه الجهود إلى تشكيل جسم موحّد، بل إلى التقريب بين وجهات النظر لمواجهة متشددي بريكست، وفقاً لبراون، الذي قال "نريد أن نغيّر الرأي العام وطنياً بحيث نصل إلى أغلبية مؤيدة للقاء في الاتحاد وقت التصويت في البرلمان. ونحتاج للضغط في الدوائر الانتخابية بطريقة موجهة، بحيث نضغط على النواب الذين يصوتون لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في دوائر صوّت ناخبوها لصالح البقاء".

وينتظر من مؤيدي "بريكست المشدد" في الحزب الحاكم أن يتصدوا لهذه المحاولات واستعادة زمام المبادرة، مؤكدين على ضرورة الانفصال التام عن الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً بعد اجتماع ماي بالحكومة أمس الثلاثاء، للتوصّل إلى رؤية حكومية للصورة النهائية للعلاقة مع الاتحاد الأوروبي. فقد صرح وزير الخارجية، جونسون بضرورة أن تحافظ بريطانيا على استقلالها التشريعي وألا تصبح "دولة تابعة" للاتحاد الأوروبي، مردداً بذلك صدى تصريحات جاكوب ريس موغ، وهو نائب محافظ من داعمي "بريكست المشدد" أيضاً.

ويطمح هذا التيار إلى الحصول على صفقة تجارية موسعة مع الاتحاد الأوروبي من دون الالتزام بقوانينه وتشريعاته، في نموذج يشمل أفضل ما يوفره النموذجان النرويجي والكندي في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. إلا أن الاتحاد الأوروبي لم ينفك يردد استحالة الوصول إلى مثل هذا النوع من الاتفاق.

وتأتي هذه التطورات في ظلّ تحولات في الرأي العام البريطاني، وفقاً لاستطلاع جديد للرأي، والذي كشف عن دعم 51 في المائة من البريطانيين للبقاء في الاتحاد الأوروبي، مقابل دعم 41 في المائة للخروج منه. كما كشف استطلاع الرأي أيضاً أنه وعند الإلحاح على من قالوا بأنهم "لا يعرفون" لاتخاذ موقف، فإن الفارق يصل إلى 11 نقطة لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، وهي أكبر نسبة تأييد للاتحاد في بريطانيا منذ تاريخ الاستفتاء.

ويعكس استطلاع الرأي هذا تحوّل الشارع البريطاني المستمر عن بريكست خلال العام الماضي، والذي كان قد تجلى في خسارة ماي لأغلبيتها البرلمانية في الانتخابات العامة بداية الصيف الماضي. إلاّ أنّ التدقيق في نتائج الاستطلاع، يوضح أنّ التغيير في تأييد الشارع البريطاني للاتحاد الأوروبي إلى تحرّك الأصوات التي وقفت على الحياد خلال الاستفتاء، وليس إلى تراجع معارضي الاتحاد عن مواقفهم. فتأثير تصويت بريكست السلبي على الساحتين الاقتصادية والسياسية في بريطانيا دفع العديدين ممن لم يشاركوا في الاستفتاء في صيف 2016 إلى الخروج عن صمتهم وقلب الكفة لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي في استطلاعات الرأي.

وستدفع هذه التحولات في الرأي العام والساحة السياسية البريطانية إلى كسر هيمنة جناح "بريكست المتشدد" على القرار السياسي البريطاني، والتخفيف من حدة بريكست المنتظر. وسيعطي ذلك أيضاً دفعة معنوية قوية لصالح مؤيدي فترة انتقالية تحافظ فيها بريطانيا على العلاقة الحالية مع الاتحاد الأوروبي، رغم اعتراضات المتشددين من المحافظين. وربما تكون هذه النقطة بداية النهاية لهيمنتهم على قرار بريكست البريطاني.