لم تنهِ استقالة رئيس الوزراء الأرميني، سيرج سركيسيان، مطلع هذا الأسبوع، الأزمة السياسية في أرمينيا، بل أدخلتها مرحلة جديدة وسط استمرار الاحتجاجات وانقسام الائتلاف الحاكم. وفي الوقت الذي أعلن فيه الحزب الجمهوري المهيمن على البرلمان، عن استعداده لإجراء انتخابات مبكرة مع استمرار الحكومة الحالية في أداء مهامها، أعرب زعيم المعارضة الأرمينية، نيكول باشينيان، عن رفضه لذلك، مؤكداً استعداده لشغل منصب رئيس الوزراء.
ليست أرمينيا أول جمهورية سوفييتية سابقة تشهد تغييراً لرأس السلطة نتيجة لاحتجاجات حاشدة، بل هذه هي حال عدد من الدول الوليدة المستقلة عن الاتحاد السوفييتي بعد تفككه عام 1991، مع بقاء روسيا اللاعب الرئيسي في المنطقة.
وفي حالتي جورجيا وأوكرانيا، لم تكن الاحتجاجات تهدف إلى مجرد التعبير عن الغضب من تدهور الظروف الاقتصادية والمعيشية واستشراء الفساد، بل هيمنت عليها أيضا شعارات مؤيدة للتكامل مع الاتحاد الأوروبي والتوجه غرباً.
ومع ذلك، فإن وضع أرمينيا يختلف عن أوكرانيا وجورجيا نظراً لعزلة أرمينيا وتردي الأوضاع الاقتصادية وأزمة إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه مع أذربيجان. وأوضح أستاذ العلوم السياسية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية كيريل كوكتيش، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه "لن تؤثر الأزمة في أرمينيا على العلاقات مع روسيا بأي شكل من الأشكال، إذ تنطلق موسكو من أن ذلك شأن داخلي أرميني، وستعمل مع أي حكومة شرعية في البلاد مع مراعاة مصالحها الوطنية".
وحول دوافع أرمينيا للحفاظ على علاقات قوية مع روسيا، يضيف: "أرمينيا بلد فقير وتكاد تكون في عزلة في ظل إغلاق الحدود مع جارتيها أذربيجان وتركيا، وتعتمد على روسيا في مجالي الأمن والطاقة". وأرمينيا واحد من أهم حلفاء روسيا في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، وهي بلد عضو في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، كما تقع القاعدة العسكرية الروسية الـ102 في مدينة غيومري الأرمينية. ويعتمد الاقتصاد الأرميني بدرجة كبيرة على تحويلات الأرمن المقيمين في روسيا والبالغ عددهم نحو 2.5 مليون والتي تصل إلى 14 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
ويذكّر كوكتيش هنا بأول رئيس لأرمينيا ما بعد السوفييتية، ليفون تير-بيتروسيان، الذي توجّه غرباً أولاً، قبل العودة لتعزيز العلاقات مع روسيا، ويقول: "حتى الآن، يتحلى جميع السياسيين في أرمينيا بمسؤولية سياسية، وبصرف النظر عمن سيصل إلى سدة الحكم، أتوقع تكرارا لسيناريو تير-بيتروسيان". وحول رؤيته لأسباب فشل رهان روسيا على الحفاظ على علاقات طيبة مع جورجيا وأوكرانيا، يتابع: "السلطة الأوكرانية ليست مستقلة، بل تتلقى تعليمات من الغرب. أما العلاقات مع جورجيا، فبدأت تتحسن بعد انتهاء ولاية الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي الذي كان يتخذ موقفاً معادياً لروسيا".
وفي مؤشر لسعي السلطات الأرمينية لإصدار رسالة بقوة العلاقات مع موسكو، أجرى الرئيس الأرميني، أرمن سركيسيان، اتصالاً هاتفياً مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، يوم الأربعاء الماضي، ليؤكدا خلاله على حل المشكلات "عن طريق حوار بناء وفي إطار الدستور". وعقد باشينيان هو الآخر لقاء مع السفير الروسي في يريفان إيفان فولينكين، وأكد خلاله أن "حركة الاحتجاجات خالية من الأمزجة المعادية لروسيا".
من جهته، يتوقع رئيس "نادي يريفان الجيوسياسي"، أرمين بوشيان، ألا تقدم أرمينيا على قطع العلاقات مع روسيا انطلاقاً من دوافع براغماتية مهما كانت توجهات السلطات الجديدة. ويقول بوشيان: "إذا وصل إلى سدة الحكم سياسي براغماتي، سواء أكانت توجهاته غربية أم موالية لروسيا، فإنه لن يسمح بقطع العلاقات مع موسكو".
وبدورها، رأت صحيفة "فيدوموستي" الروسية أن "نخبة الجمهوريين تدرك أن بقاء الحزب الحاكم بشكل أو بآخر في السلطة مرهون بترشيح سياسيين شباب إلى مناصب في الحكومة الجديدة، حتى لا تكون لهم علاقة بالمسؤولين السابقين ورجال الأعمال المرتبطين بهم". وأوضح مصدر بجهات الأمن الأرمينية لـ"فيدوموستي" أن باشينيان وأنصاره يطالبون بإقصاء الحزب الحاكم من السلطة بشكل كامل، مقللاً في الوقت نفسه من إقدام أذربيجان على التصعيد على خط التماس في ناغورنو كاراباخ في الوقت الحالي، بل ستفضل متابعة كيف تضعف أرمينيا نفسها يوماً بعد يوم وسط الانعدام الفعلي للسلطة".
وتعود جذور النزاع المسلح في إقليم ناغورنو كاراباخ ذي الأغلبية الأرمينية، إلى الإعلان عن قيام جمهورية هناك بشكل أحادي الجانب في عام 1991، فاستمر حتى عام 1994 وأسفر عن فقدان أذربيجان السيطرة على الإقليم، متحولاً بعد التوصل إلى اتفاق الهدنة إلى نزاع متجمد، شأنه في ذلك شأن غيره من النزاعات في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق.
يذكر أن سركيسيان أعلن يوم الاثنين الماضي، استقالته من رئاسة الحكومة الأرمينية بعد موجة من الاحتجاجات الحاشدة على تعيينه رئيساً للوزراء في إطار إصلاح دستوري، أسفر عن انتقال أرمينيا إلى نظام حكم برلماني، ومهّد الطريق لسركيسيان للعودة إلى رأس السلطة بصفة جديدة ولفترة غير محدودة، بعد أن شغل منصب رئيس الدولة لمدة عشر سنوات. إلا أن استمرار الاحتجاجات والصراع على السلطة، ينذر بأن استقالة سركيسيان ستكون مجرد حلقة من حلقات الأزمة السياسية في أرمينيا، وليس نهايتها.