"طوال 15 عاماً، كان يفصل ما بين الجار والجار ستار من الخيش فقط، في مخيمات بعلبك، على أمل العودة في الغد إلى فلسطين. لم يضع الناس حجراً على حجر إلا في سنوات متأخرة". يتحدث الحاج أبو سهيل عودة ابن دير القاسي (وسط الجليل الأعلى الغربي) عن رحلة النكبة التي عايشها مثل الآلاف من الفلسطينيين من مدن وقرى الجليل، الذين هجّر كثيرون منهم إلى الثكنات الفرنسية المهجورة في مدينة بعلبك، شرق لبنان، ومنها ما تحوّل لاحقاً إلى مخيم الجليل.
عن أيام النكبة، يقول أبو سهيل: "ترددت الأحاديث عن مذابح ترتكبها العصابات الصهيونية. كان المقاتلون الفلسطينيون يملكون بضع بنادق فقط. انتشر الرعب بين الناس، وقد شاهدت بأمّ عيني طائرات صهيونية قديمة تقصف كل شيء. لم يكن أمام الأهل سوى تصديق أنّ الرحلة سوف تكون مؤقتة وسيعود الناس خلال أيام... هكذا ظنّ الفلسطينيون حين سمعوا عن جيش الإنقاذ العربي".
لا تختلف كثيراً رواية الحاج مصطفى غنيم ابن قرية فراضة، القريبة من صفد في الجليل الأعلى. يعي هذا الثمانيني تلك الفترة التي بقي فيها أكثر من 40 يوماً، مفقوداً. يخبر: "تهجّر أهل البلد تحت القصف واجتياح العصابات الصهيونية التي نهبت البيوت ونسفتها وأجبرت الناس على ترك فلسطين". يقول الحاج مصطفى، أبو محمد، الذي تمتد غربته في الدنمارك إلى أكثر من ثلاثة عقود، إنّ "تلك الأيام أذكرها، كأنها حدثت في الأمس". بقي لدى جدته وخاله حتى عاد والده من بنت جبيل في جنوب لبنان لأخذه بعد 40 يوماً ظنه فيها الأهل مفقوداً. يضيف: "لا هم كانوا يدرون أين أنا، ولا أنا كنت أعرف أين هم".
عن تلك الأيام التي سبقت النكبة تعود ذاكرة الحاج مصطفى إلى مدرسته وكيف كان "الأستاذ شوكت أبو عصام والأستاذ أبو جمال يحضران من صفد لتدريسنا. أذكر الجنيه الفلسطيني الورقي وقيمته. أذكر كيف كان الناس يحبون بعضهم. كانوا لا يحتاجون إلى الكثير، فهم يأكلون من خيرات الأرض. أذكر كيف كان الناس يسافرون سياحة إلى بيروت والشام".
تلك الذاكرة التي تحدثك وكأنّ النكبة كانت في الأمس القريب، وليس قبل 68 عاماً، مفعمة بتفاصيل حياة عاشها هذا الفلسطيني "قبل أن يسمّوني لاجئاً. كان بلدنا عامراً بأهله وخيراته. وفلسطين لم يسلبها اليهود والإنجليز من فراغ. أتذكر معصرة الزيتون لدى أبي، وكيف كنت أقلده بشرب فنجان منها".
ما يتذكره الحاج مصطفى من بلدته فراضة بعد هذا العمر الطويل هو "دموية اليهود حين كانوا يمسكون الشباب والرجال في الوادي، فيقتلونهم ويتركون جثثهم للوحوش. لقد قتلوا أمامنا ابن المختار الشيخ سليم وفرضوا على والده غرامة 500 ليرة فلسطينية، وعندما لم يستطع دفعها جاءت مفرزة من العصابات الصهيونية ولغمت بيته ونسفته". أما عن الحياة في لبنان فيقول: "في لبنان تعاني كلاجئ منذ البداية. تسمع كلاماً لا يطاق، يردده بعض الجهلة عنّا، حين أصبحنا نسمى لاجئين. لم نكن راضين عن تحولنا فجأة إلى شعب مغيّب عن أرضه وممنوع من العودة إليها".
ما الذي يجعل فلسطينياً كالحاج مصطفى وصديقه أبو سهيل يتركان لبنان، لينتهي بهما الحال مهاجرَين في اسكندنافيا؟ ذاكرة الرجلين اللذَين ولدا في فلسطين وعايشا مأساة النكبة، يصعب اختزالها بكلّ التفاصيل التي مرّ فيها جيلهما حول رحلة الخروج نحو الشتات. ومع روايتهما لما عايشاه في حياة اللجوء، ما زالا يرددان مثل كثيرين من كبار السن والصغار، بأنه مهما طال الزمن فإنّ "فلسطين ستظل بلدنا، مهما حملنا وحمل أحفادنا من جنسيات" بحسب ما يقول الحاج مصطفى. يضيف: "لديّ 58 حفيداً، وهؤلاء لديهم أطفال، نحن أورثناهم رائحة الأرض وحقنا التاريخي. وإن متّ ودفنت في الغربة فأنا على ثقة بأنّهم سوف يكملون المشوار ولن يتنازلوا عن حقهم وحق أجدادنا في بلدنا مهما تغيّر الواقع. لا يمكن أن نستسلم لذلك الواقع".
بدوره، يقول أبو سهيل: "نعم حملنا السلاح وشاركنا في الثورة الفلسطينية حين جاءت إلى لبنان، وذلك حق وواجب. لكن حين خرجت الثورة عام 1982، تُركت المخيمات فريسة للحصار والضرب والإهانات والمعاملة التي لا تليق ببشر، مع كثير من عقلية الإقصاء واعتبارنا غير مرغوب فينا. مثل ذلك يؤسف له، فممارسات عصابات الهاغانا وشتيرن الصهيونية تكررت بحق الفلسطيني في بلد عربي".
ذلك الواقع أجبر عشرات الآلاف من فلسطينيي الجليل الذين أصبحوا لاجئين في لبنان، إلى الهجرة من مخيماته باتجاه دول أقصى الشمال الأوروبي. اليوم، ينتشر هؤلاء في ألمانيا والسويد والدنمارك والنرويج.