في مخيّمَي برج البراجنة وشاتيلا في بيروت، كان كلّ شيء على حاله عشيّة الذكرى الثامنة والستين للنكبة. لا لافتات ولا شعارات ولا تحضيرات لمسيرات أو تجمّعات تندّد بصمت المجتمع الدولي حيال ما ارتكب وما زال يرتكب في حقّ الفلسطينيين، لا سيّما اللاجئين منهم، وللمطالبة بـ "حقّ العودة".
على وجوه هؤلاء الفلسطينيين، يتّضح اليأس والملل من واقع مزرٍ، لم يتغيّر منذ سنوات. كان سكان شاتيلا يتفاءلون بـ"وطنية" الحاج أبو جميل الذي يعيش في المخيّم منذ أكثر من 60 عاماً. اعتاد جمع الأطفال من حوله، ليروي لهم قصص بساتين البرتقال والأحياء القديمة والمكاتب العامة التي كان يقصدها في الضفة الغربية. كان يكرّر على مسمع كلّ من حوله "ستفرج قريباً.. سنعود". أمّا اليوم، عندما يسأله أحد الجيران عن توقعاته أو يلجأ إليه أطفال الحيّ ليلعبوا معه ويستمعوا إلى قصصه، فإنه يغضب ويطلب منهم الرحيل. يقول: "أتأسف عندما أسمع أطفالاً فلسطينيين في العاشرة والخامسة عشرة، يطلقون الشتائم أو يجهلون معنى مصطلح النكبة". ويلقي اللوم على الأهل الذين "لم يربّوا أطفالهم على أفكار وطنية".
خليل لا يجادل الحاج أبو جميل كثيراً، نظراً لسنّه ووضعه الصحي السيئ. يشير إلى أنّه لم يربّ ابنه على معتقدات وطنية، لأنّ لا وقت لديه. همّه البحث عن مدرسة لتعليم طفله وعمل لتأمين لقمة العيش. يقول باختصار قبل أن يدير وجهه ويرحل: "بإمكاني العمل في ورشة كهرباء في مقابل عشرين ألف ليرة لبنانية (نحو 13.5 دولاراً أميركياً) بدلاً من المشاركة في اعتصام لا يجلب لنا سوى السخرية ووعود كاذبة من مسؤولين لا تهمّهم إلا جيوبهم".
من جهتها، لا تكترث أمّ أحمد لذكرى النكبة منذ أن ابتلت "بمصيبة تفوق طاقة أمّ على تحمّلها". تسرد أنّ ابنها البكر أحمد يدمن الحبوب المخدّرة منذ نحو سنة كاملة، بعدما أقنعه أحد شبان مخيّم برج البراجنة بتناولها واختبار شعور السعادة والنشوة، من دون مقابل ماديّ للهرب من مشاكل الفقر التي يعيشها. راح يتعاطى المخدّرات وراحت الوالدة تلاحظ أعراضاً غريبة لديه، "وكانت الكارثة عندما انهار أمامي راكعاً يطلب منّي تأمين المال لتسديد المتوجّب عليه لأصحاب البضاعة". تضيف: "لم أعد آبه لحقّ العودة. أريد أن يعود ابني إلى حضني". لذلك، راحت تستعطي المال من أجل إدخال ابنها إلى مركز لتلقي العلاج المناسب. لكنّه أخذ ما جمعته والدته وبدّد المبلغ على متعته الشخصية. تقول أمّ أحمد: "لم أتمكن من تعليم ابني، فراح يعمل في طلاء المنازل والورش. كان يطمح أن يكون معلّم لغة عربية لكن لعنة "أنت فلسطيني" رافقته منذ دخوله إلى المدرسة. يفقد شبابنا الأمل في مستقبل أفضل. لا يفكرون في فلسطين لأنهم يعلمون أنها لن تعود إليهم". تضيف: "تربّيت على مصطلح حقّ العودة منذ صغري، لكنني لم ألحظ أي خطوة إيجابية لاسترجاع حقوقنا. نحن نعامل معاملة الكلاب المنبوذة والمشرّدة في بيوت عشوائية لا يصلها الماء ولا الكهرباء. كيف لي أن أفكر ببلد طردت منه وأنا أعيش من قلّة الموت؟ أحب فلسطين لكنني أعلم أنني لن أتمكن من استنشاق هوائها أبداً".
أمّ رنا أيضاً تخلّت عن كلّ ما آمنت به وورثته عن والديها وأجدادها، لحظة إصابة ابنتها وهي طفلة في السابعة، بشظايا قذيفة أثناء "حرب المخيّمات" في ثمانينيات القرن الماضي. تقول: "فقدت ابنتي رجلها وانتشلتها من بين جثتَي أخي وأبي. منذ ذلك الحين وأنا أركض من جمعية إلى أخرى وفي أروقة مكاتب الأونروا (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) من أجل تأمين ثمن الطرف الاصطناعي الذي تحتاجه. لكنّ أحداً لم يساعدني". وتسأل: "كيف لي أن أهلل وأشارك في مناسبات مللتُ من تكرار شعاراتها وصرف جهد ووقت عليها، بينما أنا في حاجة إلى تأمين مستقبل لائق لأطفالي؟". تضيف أمّ رنا: "لم أرث من والدَي إلا ذكريات مريرة لسنوات من الانتظار ومفتاح منزلنا في طولكرم".
قبل سنوات، تزوّجت رنا وأنجبت ولداً واحداً، أسمته رضا. يبلغ رضا من العمر ثماني سنوات، ويذكر طوال الوقت أسماء المناطق التي يعبر فيها كلّ شخص يريد الهجرة إلى ألمانيا. لكن، عندما تسأله والدته عن فلسطين، يتلعثم ولا يعرف بماذا يجيب. يفكّر طوال الوقت بما يخبره به رفاقه عن الغرق في البحر بسبب "البلم" الذي ينقل عشرات الأشخاص الذين ينتهي بهم الأمر غرقى في المحيطات. رضا يكره السكن داخل المخيّم، "لأنّ الروائح نتنة ولا مجال للعب". يتمنى السفر إلى فلسطين، لكنه لا يعلم عنها إلا اسمها الذي يردده أمامه والداه.
عندما تسأل أمّ إياد عن حالها وكيف تتحضّر للاحتفاء بذكرى النكبة، تجيب بحرقة كبيرة فيما تنهمر دموعها: "اسألوني عن أحوال ابنى الذي تخلى عنه العالم ورماه في بلاد الغرباء". إياد كان قد فقد الأمل بالتخلص من معاناة العيش في المخيمات الفلسطينية في لبنان وبالعودة إلى فلسطين، فقرّر الهجرة إلى ألمانيا تاركاً خلفه والدته جميلة واخته الصغيرة فرح. تقول: "جمع ستة آلاف دولار وغادر إلى تركيا. هناك، وقعت الكارثة. خُطِف من قبل مافيا كان قد اتفق مع أصحابها على نقله بطريقة غير شرعية إلى ألمانيا. لكنّهم غدروا به". أرسلوا للعائلة عبر "واتساب" صوراً له وهو مكبّل، طالبين مبلغاً مضاعفاً لإخلاء سبيله. تغصّ أمّ إياد وهي تضيف: "هذه المرّة الأولى التي أمدّ فيها يدي إلى الغرباء". هي كانت تؤمن بأنّ الحالة ستفرج قريباً، "لكنني بتّ اليوم على يقين بأنّ العالم قرّر التخلي عن كلّ من يحمل الجنسية الفلسطينية".