تاكسي في شوارع غزة

10 ديسمبر 2014

سيارة نقل عمومي (تكسي) في غزة (8 سبتمبر/2013/أ.ف.ب)

+ الخط -

ما زلت أرفض اقتناء سيارة خاصة، تريحني من عناء الموصلات العامة، والسبب أنني لا أستغني عن منجم الحكايات والقصص والأحداث والذكريات، الذي أعثر عليه، حين أستقل سيارة تاكسي الأجرة.

لي ولع شديد بركوب سيارات الأجرة المتهالكة، والتي ضخها السوق الإسرائيلي لأسواق السيارات المستعملة في غزة، منذ سنوات، وما زالت تعمل بكفاءة بين أيدي سائقين غزاويين، بعد أن انتهى عمرها الافتراضي، فمظهرها الخارجي  المنبعج، وجوانبها الداخلية الممزقة، وأحشاء مقاعدها البارزة تستهويني إلى درجة الإدمان، فلا أقبل بسيارة إلا بتلك الأوصاف، وما إن أستقلها، حتى تنبت لي قرون استشعار المادة الخام لقصصي من الركاب البائسين، والذين غالباً ما يكونون نساء مسنات عائدات من السوق، حيث تبقى زوجات الأبناء والبنات الشابات في البيوت، لتصبح الأمّ والحماة من يقوم بالتسوق، فتضع كل راكبة سلة بلاستيكية ضخمة مملوءة بالخضار، وتخلو غالباً من الفواكه، وتتدلى منها حزم البصل والثوم في حقيبة السيارة الخلفية التي تبقى مفتوحة، لأن بداخلها، أيضاً، أنبوبة غاز تشغل مولد السيارة، بعد شح البنزين والسولار، مما أدى، بالتالي، إلى شحّ غاز الطبخ أيضا.

من أفواههن، التقطت بطلات كثيرات لقصصي، وكانت أولاهن فتاة فاتها قطار الزواج، تستقل سيارة أجرة، يقودها شاب، وتتمنى لو تلفت انتباهه، وتبني أحلامها، طوال الطريق، حتى تصل إلى محطتها الأخيرة، من دون أن يعيرها انتباها، فهي مجرد راكبة، وهو كان حلماً مشروعاً بالنسبة لها.

أجاور السيدات المسنات المنهكات، واللواتي ما إن ترد تحيتهن، حتى يبدأن بالشكوى وسرد الأخبار، مثل ارتفاع أسعار الخضار والدجاج، ومواظبتهن على شراء أجنحة الدجاج المجمدة، والتي تصل إلى غزة من إسرائيل، بعد وقوفها على المعابر فترات طويلة، مما يفقدها أية قيمة غذائية.

أتعمد أن أكون آخر من ينزل من السيارة، لكي ألاحق القصص، من راكبة إلى أخرى، في المقعد الخلفي، وكثيراً ما تصل راكبة عجوز إلى مكان سكناها في المخيم، قبل أن تكمل قصة شقائها التي بدأت أولى حلقاتها بعد النكبة، واستمرت حيث استقرت في مخيم اللاجئين، فأنزل معها، وأساعدها في حمل سلتها؛ لتضعها فوق رأسها، وأسير معها الهوينى؛ لأستكمل الحكاية، وقد حملت بيدي حزمة" السبانخ" الكبيرة التي لم تتسع لها السلة، حيث ستعد منها فطائر العجين المحشوة بالسبانخ والبصل.

تعلمت من إدماني ركوب سيارات الأجرة تقاليد ركوبها، فيجب على الراكب القديم أن يدفع الأجرة عن الجديد إن كان بينهما قرابة أو صداقة، ويعلو صوتاهما، وهما يقسمان بأغلظ الأيمان، أن كل واحد سيدفع عن نفسه، ويردف كل واحد أيضا بـ" كان الله بالعون"، فالجميع أوضاعهم سيئة. لكن، في النهاية، تنتصر النخوة والشهامة على سوء الوضع المادي.

تستعد أسواق غزة، هذه الأيام، لاستقبال شحنة جديدة من السيارات المستعملة من إسرائيل، وستؤدي إلى انتعاش سوق السيارات الفلسطيني المفتقر إلى سيارات حديثة، اختفت منه منذ 2007، فيما تؤكد وسائل الإعلام الإسرائيلية أن انتعاش السوق الإسرائيلي أوجد فائضاً من السيارات المستعملة، سيتم تصديرها إلى غزة والضفة، مما يعني زيادة الخريجين الذين سيتجهون إلى العمل سائقي أجرة، بعد معاناتهم من البطالة، فالسياقة في غزة مهنة من لا مهنة له.

لا أستطع أن أقلع عن ولعي بسيارات الأجرة تلك، منقبة عن حكايات وقصص، حتى يوم جمعتني سيارة أجرة بثلاث نساء، اكتشفت أنهن قريبات السائق، وبدأن جميعهن يتحدثن معه عن أنواع الثوم، وطرق تخزينه من دون أن يفسد. يومها، ولأول مرة، نزلت من السيارة، قبل أن أصل إلى وجهتي، وقد تركت السيارة تنبعث منها رائحة الثوم من أفواه المتحدثين، بسعادةٍ، وحديثهم عن ولعهم بالثوم على موائدهم، وتعليقه في شرفات منازلهم، درءاً للحسد وطرد الأرواح الشريرة.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.