من قلب مكة المكرمة، وفي دور المدينة المنورة، بدأت النهضة الموسيقية العربية خطواتها الأولى، فكان أول ظهور لمغن محترف حاذق (طُويس) في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، ثم علا بناء الفن الموسيقي مع تراكم الخبرة، وكثرة المتمرسين، وظهور أساطين الملحنين، وصناديد الغناء، من الرجال والنساء، برعاية كاملة من الخلفاء والأمراء والوزراء والفقهاء والقضاة وكبار الأثرياء والوجهاء. هكذا، حتى بلغ هذا الفن ذروة عالية في العقود الأخيرة للدولة الأموية، ثم حاز من العناية والرعاية العباسية ما لا تعرفه أمة في الاحتفاء بفن من الفنون.
ومن أكثر من ألف ومئتي سنة، فرغ العالم الموسيقي المولود في المدينة، يونس الكاتب، من وضع كتابيه الشهيرين "النغم" و"القيان"، وبهذا يكون قد سبق أبا الفرج الأصفهاني، صاحب الموسوعة الكبرى الشهيرة، "الأغاني" بأكثر من مئتي عام. عرفت منطقة الحجاز عدداً من المغنين والمغنيات والملحنين الحاذقين، ومنهم: بديح، وسلّامة، وابن سريج، وابن أبي عتيق، والأحوص، ومعبد، وعقيلة، وابن محرز، والغريض.
كان عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، من أشد المناصرين للغناء والمدافعين عنه ضد المتزمتين، يناظر المعترضين، ويفحم الخصوم، وكان أيضاً أحد كبار الهواة الذين يحبون الغناء الجيد، وتنعقد مجالس الطرب في داره، حيث تغني القيان ويضربن بالعود، ويدفع الأثمان الباهظة لشراء الجواري المغنيات، وقد يضاعف الثمن إذا كانت الجارية تحسن مع الغناء ضرب العود. يصف العالم الموسيقي المستشرق الإيرلندي هنري جورج فارمر (1882- 1965) عبدَ الله بن جعفر بأنه "نصير الفن الأول".
فارمر هو أحد أهم المستشرقين الذين غاصوا في تاريخ الموسيقى والغناء العربي، وبذل جهوداً ضخمة تمثلت في عدد من المؤلفات الهامة، منها "الموسيقى العربية وآلاتها"، و"التأثير العربي على النظرية الموسيقية"، و"تاريخ الموسيقي العربية حتى القرن الثالث عشر"، و"أسماء الأصوات في كتاب الأغاني".. وغيرها.
تمتلئ كتب التراث التي تهتم بالغناء والموسيقى والأدب بأخبار عبد الله ابن جعفر الفنية، مبثوثة في صفحات كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه، الذي يروي أن أحدهم عاتب ابن جعفر في شراء جارية بثمن باهظ، "فرد عليه قائلا: نعم، اشتريت جارية باثني عشر ألف درهم مطبوعة، فكان بديح وطويس (مغنيان وملحنان حاذقان) يأتيانها فيطرحان عليها أغانيهما، فعلقت منها حتى غلبت عليهما، فوُصِفت ليزيد بن معاوية، فكتب إليّ: إما أهديتها إليّ، وإما بعتها بحكمك. فكتبت إليه: إنها لا تخرج عن ملكي ببيع ولا هبة، فبذل لي فيها ما كنت أحسب أن نفسه لا تسخو به فأبيت عليه".
اقــرأ أيضاً
اشتهرت المدينة جدا بالسماع، ويبدو أنها كانت حالة عامة، أثارت القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، وكان عراقياً يميل للتشدد في الغناء، فلما التقى إبراهيم ابن سعيد الزهري بادره مستنكراً: "ما أعجب أمركم يا أهل المدينة في هذه الأغاني، ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشى عنها". قال الزهري: "فغضبت، وقلت: قاتلكم الله يا أهل العراق، ما أوضح جهلكم، وأبعد من السداد رأيكم.. متى رأيت أحداً سمع الغناء فيظهر منه ما يظهر من سفهائكم هؤلاء الذين يشربون المسكر فيترك أحدهم صلاته، ويطلق امرأته، ويقذف المحصنة، ويكفر بربه، فأين هذا من هذا، من اختار شعراً جيداً ثم اختار جرماً حسناً فردده عليه فأطربه وأبهجه، فعفا عن الجرائم وأعطى الرغائب...؟". فقال أبو يوسف: "قطعتني، ولم يحر جوابا".
يروي ابن عبد ربه موقفا آخر للزهري، إذ سأله هارون الرشيد يوماً: من بالمدينة ممن يحرم الغناء؟ فقال الزهري: من قنّعه الله بخزيه. قال: بلغني أن مالك بن أنس يحرمه. قلت يا أمير المؤمنين أوَ لمالك أن يحرم ويحلل؟ والله ما كان ذلك لابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم إلا بوحي من ربه. ولو سمعت مالكاً يحرمه وتناله يدي لأحسنت أدبه. فتبسم الرشيد.
هذا الحوار يشير ضمناً إلى أن الغناء وسماعه كان حالة عامة، وأن التشدد والتحريم كان استثناء، فالرشيد يسأل عمن يحرم، والسؤال يكون عن النادر والقليل، ولو كان المنع هو السائد ما سأل الرشيد عنه.
أما في مكة، فلم يكن الشأن يختلف كثيراً، فالغناء مقبول منتشر مطلوب، لا سيما بين الوجهاء والفقهاء وذوي المناصب. في العقد الفريد، يورد ابن عبد ربه أن الأوقص المخزومي وليَ قضاء مكة، فما رؤي مثله في العفاف والنبل، فبينما هو نائم ذات ليلة في علِّيّة له، إذ مر به سكران يتغنى ويلحن (يخطئ) في غنائه، فاقترب المخزومي منه وقال: يا هذا، شربت حراما، وأيقظت نياما، وغنيت خطأ، خذه عني، فأصلحه عليه.. فقاضي مكة ليس فقط من هواة السماع، بل هو من حفاظ الألحان المتقنين، فيصوب للسكران المخطئ.
ويروي ابن عبد ربه: قال أحمد بن جعفر: حضر قاضي مكة مأدبة لرجل من الأشراف، فلما انقضى الطعام اندفعت جارية تغني... فلم يدر القاضي ما يصنع من الطرب، حتى أخذ نعليه وجثا على ركبتيه: وقال اهدوني فإني بدنة.. (أي اذبحوني كالأضحية التي يذبحها الحجاج).
ومن هذه البدايات الراسخة، تراكمت الخبرة الغنائية، والحذق الموسيقي، وبلغ الفن ذروته أيام بني العباس، سواء في اختيار النصوص، أو التلحين، أو الغناء، أو العزف على العود، أو حتى في التنظير الموسيقي، والجدل حول التطوير والتجديد.
اقــرأ أيضاً
وقد رأى فارمر أن "موسيقى الحجاز وغناءه في صدر الإسلام كانت الرصيد الأساسي للغناء العربي التقليدي".. الغناء الذي استمرت الأجيال في مراكمته، ومثل القاعدة الصلبة للنهضة الموسيقية الحديثة التي بدأت منتصف القرن الثامن عشر، وحتى سبعينيات القرن العشرين.
أما الناقد الفني كمال النجمي، فيرى أن "التاريخ العربي قد سجل أن الغناء يتمتع بالمنعة والاحترام، إذا قويت الدولة العربية وبسطت سلطانها، فلا يجرؤ أحد أن يَتقَحَّم عليه أو يفض مجالسه، فإذا جاءت عصور التدهور القومي والاجتماعي والسياسي، اجترأ على الغناء أوشاب الناس وجهلاؤهم، وعابه وانتقص منه السفهاء والعيارون والشطار والغلمان والأحداث".
بلغ اهتمام الخلفاء والأمراء في الدولتين الأموية والعباسية بالغناء مبلغاً كبيراً، وأمست مجالس الطرب تُعقد في بلاط الخلافة، ولقي المطربون والملحنون رعاية كبرى من الحكام، تمثلت في العطايا المادية، وتقريب أصحاب المواهب، وتيسير سبل العيش الرغيد لكبار أهل الفن.
كان ارتقاء الغناء عنواناً لقوة الدولة وسطوتها وثرائها ونفوذها ومجدها، وبلوغ أوجها في الرفاهية والتنعم، وهو ما يشير إليه ابن خلدون في مقدمته بقوله "وإذ قد ذكرنا معنى الغناء فاعلم أنه يحدث في العمران إذا توفر وتجاوز حد الضروري إلى الحاجي، ثم إلى الكمالي، وتفننوا فيه، فتحدث هذه الصناعة، لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجاته الضرورية والمهمة من المعاش والمنزل وغيره".
ويروي ابن عبد ربه في العقد الفريد أنه "كان للرشيد جماعة من المغنين، ومنهم إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي، ومخارق، وطبقة أخرى دونهم، منهم زلزل، وعمر الغزال، وعُلَّوية، وكان له زامر يقال له برصوما، وكان إبراهيم أشدهم تصرفا في الغناء وابن جامع أحلاهم نغمة".
كان الخليفة الأمين ابن الرشيد من محبي الطرب، غناه إبراهيم الموصلي يوما أبياتا للحسن بن هانئ، فاستخف الأمين الطرب حتى قام من مجلسه وأكب على إبراهيم يقبل رأسه، وأمر له بثلاثة آلاف درهم، فقال إبراهيم: "يا أمير المؤمنين قد أجزتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم".. فقال الخليفة: "وهل ذلك إلا خراج بعض الكور؟".
اقــرأ أيضاً
أما الخليفة المعتصم؛ فكان يدافع عن الغناء ضد من يفتون بمنعه، وكثيرا ما تجادل مع قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد الذي كان يمتنع عن حضور مجالس الطرب، ولا يرى فيها إلا تضييعا للوقت والمال. "جلس المعتصم يوما يستمع إلى المطرب إبراهيم بن المهدي، ثم تذكر الخليفة شأنا عاجلا من شؤون الدولة، فأرسل يستدعي قاضي القضاة، فلما وصل واقترب من المجلس واستمع الغناء، تملكته الحيرة والاضطراب، وشغله الغناء عن كل شيء حتى سقطت عصاه من يده.. ثم دخل وجلس مستمعا، فلما انتهى المغني كان الطرب قد استبد بالقاضي، فوثب يلتمس من الخليفة أن يأمر بإعادته، فضحك المعتصم قائلا: إن تبت مما كنت تناظرنا فيه من صناعة الغناء سألت عمي أن يعيد غناءه عليه، فقال القاضي: قد تبت من ذلك، ورجعت عن رأيي في الغناء، وتركت مذهبي إلى مذهب أمير المؤمنين".
وإبراهيم بن المهدي، أخو الخليفة هارون الرشيد، فهو ابن خليفة، وأخو خليفتين، وعم ثلاثة خلفاء.. ولم تمنعه مكانته وحسبه من أن يكون مغنيا كبيرا حاذقا، حتى قالوا عنه هو أحسن الإنس والجن والطير والوحش صوتا، وكان يحفظ الألحان ويجري عليها بعض التعديلات، وكان تصرفه في الغناء محل جدل دائم ومناظرات لا تنتهي بينه وبين زعيم الطرب إسحاق بن إبراهيم الموصلي.
ويفسر المؤرخ والناقد الموسيقي كمال النجمي طبيعة الخلاف بين ابن المهدي وإسحاق الموصلي فيقول: "كان إسحاق يتشدد في ضبط الألحان كما انتقلت من القدماء جيلا بعد جيل، لا كراهية للتطريب والتصرف، بل خوفا من ضياع أصولها... فكان يعتبر أن ما يدخله ابن المهدي من تغيير على اللحن أمرا خطيرا"، لا سيما مع صوته الذي بلغ غاية في الجمال والأسر.. وينقل النجمي عن الأصبهاني: "كان يمضي الزمان الطويل لا تنقطع مناظرتهما ومكاتبتهما في قسمة وتجزئة صوت واحد".
وقد كانت هذه المناظرات من العمق والصعوبة والإحاطة بالتفاصيل إلى حد تضمنها بعض ما لا يدركه محترفو الغناء أنفسهم، فيعلق عليها المطرب الحاذق عمرو بن بانة بقوله: "رأيت إسحاق الموصلي يناظر إبراهيم بن المهدي في الغناء، فتكلما فيه بما فهماه ولم نفهم منه شيئا، فقلت لهما: لئن كان ما أنتما فيه من الغناء فما نحن منه في كثير ولا قليل".
وكثيرا ما جرت هذه المناظرات في بلاط الخلفاء، ودائما ما كان النصر فيها لخبير الغناء الأعظم إسحاق بن إبراهيم الموصلي، ورغم مكانة ابن المهدي باعتباره واحدا من الأسرة الحاكمة، إلا أن الموصلي تحداه بحضرة الخليفة المعتصم قائلا: إني أسألك عن ثلاثين مسألة في باب واحد من طريق الغناء لا تعرف منها مسألة واحدة.
لقد تحدث ابن خلدون عن الغناء مطولا، وخصص الفصل الثاني والثلاثين من مقدمته الشهيرة لصناعة الغناء، وكان من المؤكد أن يشير إلى تلك النهضة الموسيقية العظمى التي شهدتها الدولة العباسية، فقال: "ما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وابنه حماد".
اقــرأ أيضاً
لم يكن الغناء إذن سببا لانهيار الدولة الإسلامية، لاسيما في الأندلس، ولم يكن انشغال الخلفاء بالطرب العامل الأساس لزوال ملكهم وضياع حكمهم، فهذه النهضة الفنية واكبت ذروة قوة الحضارة العربية، كما أن الأمم المتهمة بالتآمر لإسقاط الدولة الإسلامية كان لها حظها من فنون الغناء والموسيقى، وقد تأثر العرب بفنونهم، وهو ما يؤكده ابن خلدون في المقدمة فيقول: "افترق المغنون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب وغنوا جميعا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم".
ومن ابن خلدون إلى فارمر الذي يؤكد أن الواثق كان أبرع الخلفاء في العزف والغناء.. ومنه إلى كمال النجمي إذ يقرر: كان اشتغال الخلفاء والأمراء والقادة والكبراء بفن الغناء في الدولتين الأموية والعباسية برهان حضارتهما، ولم يكن برهان فسادهما.
كان عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، من أشد المناصرين للغناء والمدافعين عنه ضد المتزمتين، يناظر المعترضين، ويفحم الخصوم، وكان أيضاً أحد كبار الهواة الذين يحبون الغناء الجيد، وتنعقد مجالس الطرب في داره، حيث تغني القيان ويضربن بالعود، ويدفع الأثمان الباهظة لشراء الجواري المغنيات، وقد يضاعف الثمن إذا كانت الجارية تحسن مع الغناء ضرب العود. يصف العالم الموسيقي المستشرق الإيرلندي هنري جورج فارمر (1882- 1965) عبدَ الله بن جعفر بأنه "نصير الفن الأول".
فارمر هو أحد أهم المستشرقين الذين غاصوا في تاريخ الموسيقى والغناء العربي، وبذل جهوداً ضخمة تمثلت في عدد من المؤلفات الهامة، منها "الموسيقى العربية وآلاتها"، و"التأثير العربي على النظرية الموسيقية"، و"تاريخ الموسيقي العربية حتى القرن الثالث عشر"، و"أسماء الأصوات في كتاب الأغاني".. وغيرها.
تمتلئ كتب التراث التي تهتم بالغناء والموسيقى والأدب بأخبار عبد الله ابن جعفر الفنية، مبثوثة في صفحات كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه، الذي يروي أن أحدهم عاتب ابن جعفر في شراء جارية بثمن باهظ، "فرد عليه قائلا: نعم، اشتريت جارية باثني عشر ألف درهم مطبوعة، فكان بديح وطويس (مغنيان وملحنان حاذقان) يأتيانها فيطرحان عليها أغانيهما، فعلقت منها حتى غلبت عليهما، فوُصِفت ليزيد بن معاوية، فكتب إليّ: إما أهديتها إليّ، وإما بعتها بحكمك. فكتبت إليه: إنها لا تخرج عن ملكي ببيع ولا هبة، فبذل لي فيها ما كنت أحسب أن نفسه لا تسخو به فأبيت عليه".
اشتهرت المدينة جدا بالسماع، ويبدو أنها كانت حالة عامة، أثارت القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، وكان عراقياً يميل للتشدد في الغناء، فلما التقى إبراهيم ابن سعيد الزهري بادره مستنكراً: "ما أعجب أمركم يا أهل المدينة في هذه الأغاني، ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشى عنها". قال الزهري: "فغضبت، وقلت: قاتلكم الله يا أهل العراق، ما أوضح جهلكم، وأبعد من السداد رأيكم.. متى رأيت أحداً سمع الغناء فيظهر منه ما يظهر من سفهائكم هؤلاء الذين يشربون المسكر فيترك أحدهم صلاته، ويطلق امرأته، ويقذف المحصنة، ويكفر بربه، فأين هذا من هذا، من اختار شعراً جيداً ثم اختار جرماً حسناً فردده عليه فأطربه وأبهجه، فعفا عن الجرائم وأعطى الرغائب...؟". فقال أبو يوسف: "قطعتني، ولم يحر جوابا".
يروي ابن عبد ربه موقفا آخر للزهري، إذ سأله هارون الرشيد يوماً: من بالمدينة ممن يحرم الغناء؟ فقال الزهري: من قنّعه الله بخزيه. قال: بلغني أن مالك بن أنس يحرمه. قلت يا أمير المؤمنين أوَ لمالك أن يحرم ويحلل؟ والله ما كان ذلك لابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم إلا بوحي من ربه. ولو سمعت مالكاً يحرمه وتناله يدي لأحسنت أدبه. فتبسم الرشيد.
هذا الحوار يشير ضمناً إلى أن الغناء وسماعه كان حالة عامة، وأن التشدد والتحريم كان استثناء، فالرشيد يسأل عمن يحرم، والسؤال يكون عن النادر والقليل، ولو كان المنع هو السائد ما سأل الرشيد عنه.
أما في مكة، فلم يكن الشأن يختلف كثيراً، فالغناء مقبول منتشر مطلوب، لا سيما بين الوجهاء والفقهاء وذوي المناصب. في العقد الفريد، يورد ابن عبد ربه أن الأوقص المخزومي وليَ قضاء مكة، فما رؤي مثله في العفاف والنبل، فبينما هو نائم ذات ليلة في علِّيّة له، إذ مر به سكران يتغنى ويلحن (يخطئ) في غنائه، فاقترب المخزومي منه وقال: يا هذا، شربت حراما، وأيقظت نياما، وغنيت خطأ، خذه عني، فأصلحه عليه.. فقاضي مكة ليس فقط من هواة السماع، بل هو من حفاظ الألحان المتقنين، فيصوب للسكران المخطئ.
ويروي ابن عبد ربه: قال أحمد بن جعفر: حضر قاضي مكة مأدبة لرجل من الأشراف، فلما انقضى الطعام اندفعت جارية تغني... فلم يدر القاضي ما يصنع من الطرب، حتى أخذ نعليه وجثا على ركبتيه: وقال اهدوني فإني بدنة.. (أي اذبحوني كالأضحية التي يذبحها الحجاج).
ومن هذه البدايات الراسخة، تراكمت الخبرة الغنائية، والحذق الموسيقي، وبلغ الفن ذروته أيام بني العباس، سواء في اختيار النصوص، أو التلحين، أو الغناء، أو العزف على العود، أو حتى في التنظير الموسيقي، والجدل حول التطوير والتجديد.
وقد رأى فارمر أن "موسيقى الحجاز وغناءه في صدر الإسلام كانت الرصيد الأساسي للغناء العربي التقليدي".. الغناء الذي استمرت الأجيال في مراكمته، ومثل القاعدة الصلبة للنهضة الموسيقية الحديثة التي بدأت منتصف القرن الثامن عشر، وحتى سبعينيات القرن العشرين.
أما الناقد الفني كمال النجمي، فيرى أن "التاريخ العربي قد سجل أن الغناء يتمتع بالمنعة والاحترام، إذا قويت الدولة العربية وبسطت سلطانها، فلا يجرؤ أحد أن يَتقَحَّم عليه أو يفض مجالسه، فإذا جاءت عصور التدهور القومي والاجتماعي والسياسي، اجترأ على الغناء أوشاب الناس وجهلاؤهم، وعابه وانتقص منه السفهاء والعيارون والشطار والغلمان والأحداث".
بلغ اهتمام الخلفاء والأمراء في الدولتين الأموية والعباسية بالغناء مبلغاً كبيراً، وأمست مجالس الطرب تُعقد في بلاط الخلافة، ولقي المطربون والملحنون رعاية كبرى من الحكام، تمثلت في العطايا المادية، وتقريب أصحاب المواهب، وتيسير سبل العيش الرغيد لكبار أهل الفن.
كان ارتقاء الغناء عنواناً لقوة الدولة وسطوتها وثرائها ونفوذها ومجدها، وبلوغ أوجها في الرفاهية والتنعم، وهو ما يشير إليه ابن خلدون في مقدمته بقوله "وإذ قد ذكرنا معنى الغناء فاعلم أنه يحدث في العمران إذا توفر وتجاوز حد الضروري إلى الحاجي، ثم إلى الكمالي، وتفننوا فيه، فتحدث هذه الصناعة، لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجاته الضرورية والمهمة من المعاش والمنزل وغيره".
ويروي ابن عبد ربه في العقد الفريد أنه "كان للرشيد جماعة من المغنين، ومنهم إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي، ومخارق، وطبقة أخرى دونهم، منهم زلزل، وعمر الغزال، وعُلَّوية، وكان له زامر يقال له برصوما، وكان إبراهيم أشدهم تصرفا في الغناء وابن جامع أحلاهم نغمة".
كان الخليفة الأمين ابن الرشيد من محبي الطرب، غناه إبراهيم الموصلي يوما أبياتا للحسن بن هانئ، فاستخف الأمين الطرب حتى قام من مجلسه وأكب على إبراهيم يقبل رأسه، وأمر له بثلاثة آلاف درهم، فقال إبراهيم: "يا أمير المؤمنين قد أجزتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم".. فقال الخليفة: "وهل ذلك إلا خراج بعض الكور؟".
أما الخليفة المعتصم؛ فكان يدافع عن الغناء ضد من يفتون بمنعه، وكثيرا ما تجادل مع قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد الذي كان يمتنع عن حضور مجالس الطرب، ولا يرى فيها إلا تضييعا للوقت والمال. "جلس المعتصم يوما يستمع إلى المطرب إبراهيم بن المهدي، ثم تذكر الخليفة شأنا عاجلا من شؤون الدولة، فأرسل يستدعي قاضي القضاة، فلما وصل واقترب من المجلس واستمع الغناء، تملكته الحيرة والاضطراب، وشغله الغناء عن كل شيء حتى سقطت عصاه من يده.. ثم دخل وجلس مستمعا، فلما انتهى المغني كان الطرب قد استبد بالقاضي، فوثب يلتمس من الخليفة أن يأمر بإعادته، فضحك المعتصم قائلا: إن تبت مما كنت تناظرنا فيه من صناعة الغناء سألت عمي أن يعيد غناءه عليه، فقال القاضي: قد تبت من ذلك، ورجعت عن رأيي في الغناء، وتركت مذهبي إلى مذهب أمير المؤمنين".
وإبراهيم بن المهدي، أخو الخليفة هارون الرشيد، فهو ابن خليفة، وأخو خليفتين، وعم ثلاثة خلفاء.. ولم تمنعه مكانته وحسبه من أن يكون مغنيا كبيرا حاذقا، حتى قالوا عنه هو أحسن الإنس والجن والطير والوحش صوتا، وكان يحفظ الألحان ويجري عليها بعض التعديلات، وكان تصرفه في الغناء محل جدل دائم ومناظرات لا تنتهي بينه وبين زعيم الطرب إسحاق بن إبراهيم الموصلي.
ويفسر المؤرخ والناقد الموسيقي كمال النجمي طبيعة الخلاف بين ابن المهدي وإسحاق الموصلي فيقول: "كان إسحاق يتشدد في ضبط الألحان كما انتقلت من القدماء جيلا بعد جيل، لا كراهية للتطريب والتصرف، بل خوفا من ضياع أصولها... فكان يعتبر أن ما يدخله ابن المهدي من تغيير على اللحن أمرا خطيرا"، لا سيما مع صوته الذي بلغ غاية في الجمال والأسر.. وينقل النجمي عن الأصبهاني: "كان يمضي الزمان الطويل لا تنقطع مناظرتهما ومكاتبتهما في قسمة وتجزئة صوت واحد".
وقد كانت هذه المناظرات من العمق والصعوبة والإحاطة بالتفاصيل إلى حد تضمنها بعض ما لا يدركه محترفو الغناء أنفسهم، فيعلق عليها المطرب الحاذق عمرو بن بانة بقوله: "رأيت إسحاق الموصلي يناظر إبراهيم بن المهدي في الغناء، فتكلما فيه بما فهماه ولم نفهم منه شيئا، فقلت لهما: لئن كان ما أنتما فيه من الغناء فما نحن منه في كثير ولا قليل".
وكثيرا ما جرت هذه المناظرات في بلاط الخلفاء، ودائما ما كان النصر فيها لخبير الغناء الأعظم إسحاق بن إبراهيم الموصلي، ورغم مكانة ابن المهدي باعتباره واحدا من الأسرة الحاكمة، إلا أن الموصلي تحداه بحضرة الخليفة المعتصم قائلا: إني أسألك عن ثلاثين مسألة في باب واحد من طريق الغناء لا تعرف منها مسألة واحدة.
لقد تحدث ابن خلدون عن الغناء مطولا، وخصص الفصل الثاني والثلاثين من مقدمته الشهيرة لصناعة الغناء، وكان من المؤكد أن يشير إلى تلك النهضة الموسيقية العظمى التي شهدتها الدولة العباسية، فقال: "ما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وابنه حماد".
لم يكن الغناء إذن سببا لانهيار الدولة الإسلامية، لاسيما في الأندلس، ولم يكن انشغال الخلفاء بالطرب العامل الأساس لزوال ملكهم وضياع حكمهم، فهذه النهضة الفنية واكبت ذروة قوة الحضارة العربية، كما أن الأمم المتهمة بالتآمر لإسقاط الدولة الإسلامية كان لها حظها من فنون الغناء والموسيقى، وقد تأثر العرب بفنونهم، وهو ما يؤكده ابن خلدون في المقدمة فيقول: "افترق المغنون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب وغنوا جميعا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم".