أثبتت المعطيات الإحصائية للأشهر المنصرمة ضعف الآثار السلبية للحصار على مالية قطر الخارجية. ويظهر ذلك واضحاً من خلال تحليل المبادلات القطرية الخليجية من جهة وحسابات ميزان المدفوعات من جهة أخرى. لكن لا يجوز تهميش هذه الآثار الذي لا يخدم المصالح القطرية والخليجية. بل يتعين العمل على معالجة الأزمة بفاعلية وسرعة.
المبادلات مع دول الحصار لصالح قطر
من النتائج المباشرة والفورية للحصار تراجع التجارة الخارجية بين قطر ودول الحصار. فمن جهة انتقلت الصادرات القطرية من 4817 مليون ريال في الربع الرابع من 2016 إلى 1882 مليون ريال في الربع الرابع من عام 2017. وهبطت الواردات القطرية من هذه الدول من 4617 مليون ريال في الفترة الأولى إلى 925 مليون ريال في الفترة الثانية.قبل الحصار كانت هذه المبادلات تتسم إذن بالتوازن. أي أن الصادرات تعادل تقريباً الواردات، أما بعد الحصار فقد أصبحت في صالح قطر. لأن صادراتها تعادل تقريباً ضعف وارداتها. إذن الخاسر الأول دول الحصار.
الإمارات أهم شريك تجاري لقطر في مجموعة دول الحصار. ففي الربع الرابع من عام 2016 استوردت قطر سلعاً من الإمارات (لا سيما الملابس والمواد الغذائية) بقيمة 2768 مليون ريال أي ما يعادل 9.6% من المجموع الكلي للواردات القطرية. وهي نسبة لا يستهان بها. ثم انهارت الصادرات الإماراتية لتصل إلى 601 مليون ريال أي 1.8% من الواردات القطرية.
خسرت الإمارات خسارة فادحة وربحت عُمان التي حلت محل الإمارات في هذا الميدان.
أما الصادرات القطرية إلى الإمارات فقد شهدت أيضاً هبوطاً كبيراً خلال هذه الفترة. ولكن لم يشمل الهبوط جميع المواد. فما زالت واردات الإمارات من الغاز الطبيعي القطري مستمرة حتى الآن.
تستورد الإمارات عبر أنبوب دولفين أربعة آلاف طن يومياً. وبعد مضي نحو 11 شهرًا على الحصار ورغم التوتر الشديد في علاقات البلدين لم تقطع قطر صادراتها للإمارات ولم توقف الإمارات وارداتها الغازية من قطر.
يصعب على الإمارات خلال فترة قصيرة الاستغناء عن الغاز القطري لأسباب فنية. كما يستخدم الغاز القطري لتوليد حوالي ثلث حاجات الإمارات الكهربائية.
وبالمقابل يمكن للدوحة وبسهولة قطع إمداداتها للإمارات لأن الواردات الإماراتية البالغة 1.5 مليون طن في السنة لا تمثل سوى 1.9% من الصادرات الغازية القطرية، كما يمكن استبدال الإمارات بمستوردين آخرين في آسيا وأوروبا، بيد أن الدوحة لم تقطع صادراتها للإمارات لأن ذلك ينقل الأزمة الخليجية إلى مرحلة أخطر.
ينطلق تقدير تبعات الأزمة الخليجية على المالية القطرية من تحليل شامل لميزان المدفوعات. أي لجميع حسابات قطر مع العالم الخارجي
الميزان الجاري من عجز إلى فائض
ارتفعت الصادرات السلعية لقطر في الربع الثالث من عام 2017 بمبلغ 8842 مليون ريال مقارنة بنفس الفترة من العام السابق نتيجة تحسن أسعار الوقود الأحفوري. ولنفس السبب ارتفعت مرة أخرى في الربع الرابع بمبلغ 8126 مليون ريال.
وبالمقابل تراجعت الواردات في الربع الثالث من عام 2017 مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق بمبلغ 2968 مليون ريال. لكنها عادت للارتفاع في الربع الرابع. وفي الفصلين الأخيرين تحسن أداء الميزان التجاري.
وهذا ضروري للمالية القطرية لأن هذا الميزان هو الوحيد الذي يسجل فائضاً في ميزان المدفوعات. ولا يقتصر الأمر على قطر بل يشمل أيضاً جميع دول مجلس التعاون.
أما حساب الخدمات فهو يعاني من عجز مهم. لكنه هبط بصورة واضحة في الربع الثالث من عام 2017 واستمر هذا الاتجاه في الربع الرابع. وهذه نتيجة منطقية لغلق الحدود خاصة البرية مع السعودية التي أثرت بشدة على حسابات النقل والسفر. وبغض النظر عن أثاره الاقتصادية أسهم تقليص عجز الخدمات مساهمة واضحة في دعم مركز الحساب الجاري لقطر.
ويمثل حساب الدخل أرباح الاستثمارات القطرية في الخارج من جهة وترحيل أرباح الاستثمارات الأجنبية إلى الخارج من جهة أخرى. فقد أرتفعت الأرباح القطرية بمبلغ 1372 مليون ريال في الربع الثالث من عام 2017 قياساً بنفس الفترة من العام السابق.
في حين لم يزد تحويل أرباح الاستثمارات الأجنبية إلا بمبلغ 799 مليون ريال. أما في الربع الرابع فقد انخفضت الأرباح القطرية وكذلك الأجنبية. ويلاحظ أن عجز هذا الحساب خلال فترة الحصار اقل من العجز خلال الفترة السابقة.
أما حساب التحويلات فيتضمن بالدرجة الأولى تحويلات العمال الأجانب العاملين في قطر. ويقع في مقدمة الحسابات السلبية لموازين مدفوعات جميع دول مجلس التعاون. في قطر ارتفع حجم هذه التحويلات بنسبة 9.7% في الربع الثالث من عام 2017. ثم تراجع بنسبة 12.5% في الربع الثالث. وهكذا تحسن نسبياً هذا الحساب وأثر بصورة إيجابية على الميزان الجاري.
وبالنتيجة النهائية انتقل الميزان الجاري من عجز قدره سبعة مليارات ريال قبل الحصار إلى فائض ثمانية مليارات ريال في الربع الثالث من عام 2017 وعشرة مليارات ريال في الربع الرابع.
انخفاض طفيف للاحتياطي
هذا التحليل على درجة كبيرة من الأهمية في دول مجلس التعاون الخليجي نظراً لثبات سعر صرف عملاتها مقابل الدولار. وبسبب اعتماد هذه الدول على الواردات في إشباع حاجاتها الإنتاجية والاستهلاكية فإن أي هبوط في القيمة التعادلية للعملة المحلية يقود بالضرورة إلى ارتفاع معدلات التضخم فتنخفض بالتالي القدرة الشرائية للمواطنين.
ولكن يتعين الأخذ بنظر الاعتبار خصوصيات قطر في هذا التحليل. لذلك لابد من التعرف إلى تأثير الحصار على هذا الاحتياطي النقدي من جهة وتقدير أهمية هذا الاحتياطي في القدرة المالية الكلية للدولة من جهة أخرى.
أفضى الحصار في أشهره الأولى إلى سحب كميات كبيرة من الودائع المصرفية. ولم يقتصر الأمر على الودائع الأجنبية خاصة الخليجية بل شمل كذلك قسطا من الودائع المحلية. إنها هجمة عنيفة ضد الريال القطري سواء كانت مقصودة أم عفوية.
ورغبة في الحفاظ على سعر الصرف اضطر البنك المركزي إلى التدخل الفوري فضخ كميات كبيرة من الدولارات، الأمر الذي قاد إلى امتصاص الهجمة وإلى هبوط مؤقت في الاحتياطي الأجنبي.
عند النظر إلى الإحصاءات الرسمية يتبين أن حجم الاحتياطي النقدي في نهاية مايو/أيار 2017 (قبل قرار الحصار بأيام) كان 45.7 مليار دولار. ثم انخفض إلى 36.0 مليار دولار في نهاية أكتوبر/تشرين الأول من نفس السنة، أي بعد مرور خمسة أشهر على الحصار. بمعنى أن المصرف المركزي فقد 9.7 مليارات دولار، لكن الاحتياطي عاد بعد ذلك للارتفاع حسب بيانات البنك المركزي القطري.
للوهلة الأولى يفترض أن تتدهور الحالة المالية للبلاد تدهوراً كبيراً لأن هذا المبلغ يعادل 23.0% من حجم الاحتياطي النقدي لدى المصرف المركزي. لكن القدرة المالية لقطر لا تقتصر على ما يملكه مصرفها المركزي بل تشمل أيضاً أصول جهاز قطر للاستثمار البالغة 320 مليار دولار، بمعنى أن قدرة البلد تعادل 356 مليار دولار على أقل تقدير.
وبالتالي فإن المبالغ المسحوبة لا تمثل سوى 2.9% من هذه القدرة، ناهيك عن ارتفاع الاحتياطي النقدي للمصرف في ديسمبر/كانون الأول المنصرم، وهذا يعني أن ميزان المدفوعات لهذا الشهر سجل فائضاً، كما زاد الاحتياطي في نهاية فبراير/شباط 2018، كما تشير تقارير صندوق النقد الدولي إلى تصاعد الاحتياطي النقدي القطري للسنة الجارية وكذلك السنوات القادمة.