بين الفصحى والعامية: لمن نقرأ نشرة الأخبار؟

07 اغسطس 2018
(تفصيل من عمل لـ سليمان الكامل/ تونس)
+ الخط -

منذ فترة وجيزة، شاعت في بعض القنوات التلفزيونية والإذاعية، في المغرب العربي ومشرقه، ممارسة لافتة، تتمثّل في إلقاء الأخبار، المحليّة منها والعالمية، باللهجة المحكية، مع أنَّ إلقاءها ظلّ، لعقود مديدةٍ، حكراً على الفصحى قاموساً وتراكيب، تستأثر به منطقةَ نفوذٍ لا تُخترق.

وقد استند هذا الاحتكار إلى التماهي بين الخطاب الرسمي، أي كلّ ما تنتجه الدولة من كلام، والنشاط الإعلامي، الذي هيمنت عليه سلطات البلدان العربية إبان مرحلة ما بعد الاستقلال. وهكذا، تواطأ الجميع على دمج الخطاب الإخباري ضمن الحديث الرسمي، الذي لا يُصاغ إلّا في النمط الفصيح، والذي ينبغي أن تنهض به أجهزةُ السلطة حصراً.

وشهد بعدها الخطاب الإعلامي منعطف استعمال المحكيات، مع ما يُعرَف بمرحلة الانفتاح الاقتصادي، الممتدّة من بدء السبعينيات إلى أواسط التسعينيات في جلّ الأقطار العربية. وترتَّب عن هذا المنعطف انفتاح إعلامي انعكس في ظهور برامج متنوّعة تستقطب المشاهدين، لُحمتها حصصٌ دينية وتعاليق رياضية وبرامج ألعابٍ وطبخ... وسيطرت العامية، تدريجياً، على لغة الإعلام وتوسّعت في أرجائه حتى صارت أداة تواصل شعبية، نافست الفصحى في معاقلها، بعد أن ابتعدت عن أفهام شرائح واسعة من المجتمع، بعضها أمّي.

وتسارعت وتيرة الأحداث حين ارتبطت هذه البرامج بعقود الإشهار وخِطط المستثمرين الذين فضّلوا اعتماد العامية للوصول إلى أكبر عددٍ من المتابعين. ومع مطالع الألفية الجديدة، بدا شريط الأخبار، ضمن برامج الشاشات والإذاعات، مثل جزيرة معزولة يتكلّم أهلها الفصحى، في حين يستخدم منتجو بقيّة المواد الدارجة. مشهدٌ من الازدواج اللغوي نادر في العالم.

وبعيداً عن مسار الإعلام العربي وتحوّلاته، يمكن النظر إلى المسألة من زاوية لسانية محضة: فتنافس العامية والفصحى على صياغة "الأنباء" ليس سوى ترجمة لسجال قديم حول حدود السجلَّين، ومجال كلّ واحد منهما، سجالٍ اندلع في القرن التاسع عشر ولم ينته إلى أيّامنا، ولا نخاله ينتهي يوماً. فقد شمل قطاعات عديدة مثل مقرّرات التعليم ومداولات البرلمان ووثائق القانون وخطاب الوعظ الديني (...) ولعلّ أعقد مراتبه ما دار بين الأدباء من معارك حول استعمال العامية في حوار شخصيات الروايات الواقعية.

ومن أبرز الحجج الذي سيقت لدعم حضور العامية في نشرات الأنباء هو توفّر اللهجات على قواعد صرفية ونحوية وتركيبية أبسط من تلك التي تنظم الفصحى؛ فهي لا تحتكم إلى نفس هذا الكم من القواعد وعلامات الإعراب وتصاريف الأفعال وتنوّع الضمائر وعددها. علماً أن اللجوء إلى الدارجة يتم طبقاً لـ "قانون المجهود الأدنى" والاقتصاد في البذل الفكري والصوتي الذي يصاحب إنتاج الناس كلامَهم، وهو قانونٌ صاغه علماء اللسان كأحد محدّدات الكلام، ومنهم أندريه مارتينيه.

ومن جهة ثانية، يُشدّد مناصرو الدارجة على أن الأخيرة هي وسيلة تعبير كل الفئات الاجتماعية، فهي لغة الشعب الطبيعية، ووسيلة تخاطبهم في معيشهم اليومي، في حين يقتصر استخدام الفُصحى على الفئات المتعلّمة. وهي إلى ذلك أداة الأحلام ومادّة العواطف والشتائم، أي أنها السجل العفوي الذي ينقل، بأمانة وبساطة، مشاعرَ الناس، باعتبارها لغتهم - الأم. وسيكون التعبير بغيرها تكلّفاً، واستعمالُ ما عداها في المحاورة اصطناعاً، يعطّل التواصل ويجلب السخرية.

ويدعم هذا التصوّرَ مبدأ التطابق بين الممارسة الشفوية والانتماء الطبقي والتركيبة الاجتماعية؛ إذ تتألّف أغلب المجتمعات العربية من فئات وسطى يشكّلها الموظّفون والعمّال والمزارعون، ولا يستوجب نمط حياتهم اليومي الخوضَ في المفاهيم المجرّدة التي هي من اختصاص "النخبة"، فهم يتحرّكون في مجالات البيت والمصنع والمتجر والسوق ومكان العمل، وهي فضاءات لا تستدعي الفصيح إلا نادراً أو ما كان منه متواتراً، ميسور الفهم.

ومن جانب آخر، يقترن الدفاع عن العامية بإنماء "الروح الوطنية"، بالمعنى القُطري للكلمة. فقد صارت اللهجات التي تميّز كل بلدٍ عربي رمزاً لهويّته وعنواناً على انتمائه، مع أنها تنويعات من فصيح الضاد. وقد يكون تأكيد كل بلد على لهجته وتقديمه لها ضماناً للوحدة الوطنية الداخلية، وردّة فعلٍ على هيمنة الخطاب القومي الذي حصر الهوية في الاتكاء على الثقافة العربية العالِمة، وأغلب نصوصها بالفصحى ناطقٌ. وهذه هي أطروحة ساطع الحصري (1879 - 1968)، وغيره من القوميّين، وهي التي سادت منتصفَ القرن الماضي.

ولكن بعد تفكك خطابهم، وانهيار حُلمهم بإقامة دولة جامعة للأمة العربية الموحدة، لا سيما بعد ما شهدته المنطقة من نزاعات بـين "الأشقّاء" واحتراب، فقد أفرغ الدفاع عن الفصحى من أي مضمون قومي، وغدا استعمال اللهجة دليلاً على التمسّك بالحس الوطني والقرب من الشعب.

وفي المسألة بعدٌ صراعي آخر، تمتدّ جذوره إلى العلاقات المعقّدة بين الشرق والغرب؛ فقد اجترح الدعوة إلى اعتماد العامية المستشرقون أيضاً حين اعتبر بعضهم أن الفصحى لغة ميتة، مثلها مثل اللاتينية في أوروبا، ولم يبق من يتواصل بها سوى نخبة ضيّقة من رجال الأدب والفقه والفلسفة؛ فهي لغة "الخاصّة"، انحدرت إليها من عصور بعيدة، ولا يربطها بعرب اليوم أي رابط حقيقي. فبِها صيغت دواوين كبار الشعراء كامرئ القيس وبشّار وأبي تمّام، ومنها قُدّت رسائل ابن المقفع والجاحظ وابن سينا. وفي أعلى مراتبها، يتربع القرآن والحديث النبوي.

وهكذا، يُعد وصول العامية إلى نص شريط الأنباء نتيجة منطقية لمقدّمات عدّة؛ أوّلها اتصاليٌّ حيث يعتقِد مناصروها أن تأثير المحكي أبلغ من تأثير الفصيح في جماهير المشاهدين. ثانيهما سياسي، بعد أن تبلور جزءٌ من الهوية الوطنية على أساس اختلاف اللهجات العربية وارتباطها بحدود جغرافية وكيانات قانونية. وهو شعور باتت تغذّيه اليوم أنشطة المجتمع المدني ويدعمه الساسة والفنّانون ورجال الفكر.

والحق أن إلقاء الأخبار بالدارجة جزءٌ من مشهد لغوي شديد التعقيد: فقد أثبتت العربية الفصحى، على مدى القرنَيْن الماضيين، أنها وإن كانت خسرت الكثير من المواقع لحساب اللهجات - واللغات الأجنبية أيضاً - لا تزال "حيّة"، تتمتّع بموفور الصحة. ولا أدلّ على ذلك من أنها تستمد نسغ الحياة حتى من منافساتها ذاتها.

فحين نعود إلى نشرة الأخبار، نرى كيف يُنتج تنافس العامية والفصحى حولها "عربية وسطى"، قريبة من الأفهام، ولكنها ليست منقطعة عن المتن الأصلي والأصيل.


في مناطق أخرى
وصل التجاذب بين العامية والفصحى إلى مجالات لم يكن أحد يخال، منذ عقود قليلة، أن يصل إليها الكلام اليومي. ومن أبرز ما يمكن الاستشهاد به أنَّ نسخة من الدستور التونسي الأخير (2014، صورة الغلاف) قد صيغت بالدارجة. ومن جانب آخر، يمكن الإشارة إلى تواتر إنجاز قواميس وكتب نحو تثبت قواعد اللهجات، سعياً لمنحها مقوّمات ضرورية تجعل منها "لغةً" قائمة بذاتها، مستقلّة عن أصولها البليغة، ومنقطعة عن تراثها.

المساهمون