بين الخرطوم وطهران

17 سبتمبر 2014

البشير في مؤتمر دول عدم الانحياز في طهران (أغسطس/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -

فجأة، وكما أحوال الطقس الخريفي في السودان في هذه الأيام، تستعصي على أهل الأرصاد الجوي هناك، فتطيش توقعاتهم، فيستنجدون ختاماً بعبارة باتت رديفة للتوقعات "والله أعلم". هذا بالضبط ما كان من قرار الحكومة السودانية، أخيراً، إغلاق المركز الثقافي الإيراني وطرد الملحقية الثقافية الإيرانية في الخرطوم. قرار لو تمَّ قبل 25 عاماً لما أثار انتباه أحد في السودان، فإيران لم يكن لها وجود في الحياة السياسية السودانية قبل انقلاب الرئيس عمر البشير. ولم تدخل في الحياة السياسية تاريخياً إلا عند الثورة الإيرانية وإبعاد الشاه عن الحكم. وقتها، كان شارع جامعة الخرطوم ينطق بهوى الحركة الإسلامية عام 1978، حينما سيّروا مظاهراتٍ مؤيدة للخميني. وفي غمرة الحماس الطلابي، انطلق صوت طلاب الجامعة، يعلنها رغماً عن الحركة الإسلامية، التي كانت متحالفةً مع نظام جعفر نميري "مصير نميري مصير الشاه".

وقد أثار قرار الخرطوم بشأن محاربة "التشيّع" جدلاً وردود أفعال، معظمها محلية، تتداولها بزهو دوائر الحركة الإسلامية في السودان ومن في فلكها. وفي المقابل، لم تصدر أية ردة فعل على أي مستوى سياسي آخر في الخرطوم من أحزاب المعارضة السياسية، وهذا مؤشر على أن القرار وردة الفعل عليه زوبعة في فنجان الحركة الإسلامية في السودان وحدها. عربياً، لم تهتم دول الخليج بالقرار إلا بالقدر الذي تم به تناقل الأخبار في وسائل الإعلام، من دون اعتناءٍ بمدلولاته أو انعكاساته. وهذا يبعد فرضية الضغط الخليجي على الخرطوم لانتفاء مسبباته، فعلاقة الخرطوم الرسمية في أسوأ حالاتها خليجياً، والثقة في حدها الأدنى.  

في أغسطس/آب 1980، كنت من حضور ندوة اقتصرت على نفر محدود، في مركز الدراسات الأفرو- آسيوية التابع لجامعة الخرطوم. تحدث فيها الدكتور حسن مكي، أحد مفكري "الإخوان المسلمين" في السودان، وموضوعها "الثورة الإيرانية". كان مكي عائداً لتوه من طهران، وكان يتحدث بانبهار وإعجاب شديدين بالثورة الإيرانية، معدداً إنجازاتها، ومذكراً بما استفادته، وما يمكن أن يفيد الحركة الإسلامية في السودان من التجربة الإيرانية. باختصار، كانت محاضرة تبشيرية عن الثورة الإيرانية الخمينية بامتياز. ولما استولى الإسلاميون في السودان على الحكم عام 1989، ليس بثورة على النمط الإيراني – الخميني، بل بانقلابٍ عسكري أطاح الحكم الديمقراطي، كانت إيران وتجربتها ماثلةً في الخرطوم. استخدمت الحركة الإسلامية، وقتها، كل ذخيرتها وما تعلمته من التجربة الإيرانية في أيامها الأولى من استخدام عنفٍ غير مألوف، إلى حد إعدام شباب سودانيين، من دون أن يمثلوا أمام قضاء فيه حد أدنى من الصدقية. استخدمت الحكومة، بقيادة عمر البشير، ودعم من الرئيس الروحي للتنظيم، حسن الترابي، ذخيرة من وسائل التعذيب لم تكن معهودةً لا في الأدب السياسي السوداني، ولا في أسوأ حالات النظم الدكتاتورية، وقمعها المسعور في السجون، طالت الصفوة السياسية والثقافية وقادة المجتمع من أساتذة الجامعات والوزراء والنقابيين. في تلك الأيام، كانت إيران الشيعية الحبيبة قدوة تحتذى وحاضرة، وكانت الوفود الإيرانية تسرح وتمرح في الخرطوم. ورفسنجاني بمثابة بطل مفضل ومثال.

قد تكون الحكومة السودانية أغلقت، فعلاً، المركز الثقافي الإيراني، لكن المدرسة الإيرانية في العنف ضد الخصوم باقية، والسجون في السودان مليئة بالخصوم السياسيين، على الرغم من الإنكار، وهو من بنات أفكار المدرسة الإيرانية أيضاً. القرار السوداني، بصورته وتوقيته، خطوة سياسية خاطئة من منظور مصالح النظام نفسه، فلا دول الخليج تضغط، ولا هي تهتم بما يجري بين الخرطوم وطهران منذ عقود، ولا يؤثر عليها في شيء، إذ خطر إيران ماثل قبالتها، ولا يحتاج الأمر إلى الالتفاف عبر السودان غرباً. وفوق ذلك، لا يمكن النظر إلى القرار في معزل عن حوار ترغب فيه الخرطوم لجمع شتات الحركة الإسلامية والعودة إلى السيرة الأولى، أي عودة الترابي إلى مقدمة الحدث وإدارته. وهو حوار بات مؤشره الواضح يشير إلى لملمة الفرقاء من الحركة الإسلامية، ولا شيء يوحدّها أكثر من مثل هذه الفرقعة والضجيج الإعلامي الذي أثير على الحسينيات والتشيع في السودان.

بإيجاز، المركز الإيراني "وخطر التشيع" المزعوم من بلاوي النظام التي نثرها على أرض السودان. هو من استجلبها بدايةً، وهو من مهّد لها كل السبل، لغرس بذورها في أرضٍ لم تعرف التشيّع تاريخياً. لكن، ثمة ظاهرةٌ شائعة سودانياً في هذه الأيام، إن كل ما يغيظ أهل الإنقاذ والحكم في السودان يجد من يروجه نكاية بهم، لا حباً في شروره. فالسوداني، بطبعه، مجبول على العفة وفعل الخير ما قبل تاريخ الإنقاذ. ولم يعرف التاريخ السوداني غوصاً عميقاً في تاريخ الحركة الشيعية، ناهيك عن تبني أفكارها، إلا مع حكم البشير الذي برع في نشر بذور الثورة الإيرانية سياسياً ودينياً.  

لا أرى في كل هذا الضجيج سوى انتصار خائب لمجموعة صغيرة داخل الحركة الإسلامية السودانية، تعتبر أنها سجلت مكسباً تخاطب به أنصار الخارج، وخطوة على طريق رص صفوف الحركة، لمواجهة خطرٍ يحدّق بها بعد التحولات عربياً. لكن، ما عهدناه في حكم الإنقاذ، أن المبادئ مضيَّعة دوماً، والمصالح ثابتةً، وحتى اللحظة، المصالح كفتها راجحة.

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.