بيروت: أفلامٌ كثيرة ومطبوعات قليلة

25 ابريل 2019
هل مسؤولية توقّف المجلات على الجانب الماليّ؟ (عامر غزال/Getty)
+ الخط -
لم تشهد بيروت حضورًا نقديًا متعلّقًا بالسينما، له فاعلية المواكبة والبلورة والنقاش الثقافي والفكري، في المراحل المختلفة من التاريخ المديد لإنتاج الأفلام، بدءًا من عام 1929، مع إنجاز "مغامرات الياس مبروك" للإيطالي جوردانو بيدوتي. ومع أنّ المراحل التأسيسية الأولى، المنتهية مطلع سبعينيات القرن الـ20، مرتبكةٌ وغير مُنتجة صناعةً متكاملة، في ظلّ إنشاء 3 استديوهات تُشكِّل عنوانًا أساسيًا في إنتاج الأفلام وتصويرها، وهي "استديو بعلبك" و"استديو الأرز" و"استديو هارون" (خمسينيات القرن الـ20 وستينياته)، إلاّ أن المراحل اللاحقة، وبعضها منخرطٌ في الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، تشهد تناميًا مستمرًّا في الإنتاج والتطوير وبلورة الأشكال والمعالجات والأنواع، لكنها تفتقد مجلاتٍ نقديةً تمتلك شرطها الثقافي والفكريّ في مقاربة الأفلام والمسائل والتقنيات، وتتمكّن من مواكبة عملية ومستمرّة، كحال مجلاّت فرنسية وأميركية وإنكليزية وغيرها، رغم الاختلاف الكبير بينها في أساليب المتابعة والنقاش. 

لكن هذه الصورة ناقصةٌ، إذْ تصدر مجلات متفرّقة، في أوقاتٍ عديدة من التاريخ القريب لصناعة الأفلام اللبنانية، وتحديدًا في ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته. أوقات تستدعي إصدار مطبوعات كهذه، لمواكبة ما يحدث في الصالات ومحيطها، من دون بلوغ مرتبة الإنتاج النقديّ المتكامل، الذي يُفترض به أن يُغربل أفلامًا ومشاريع وطروحات وأفكارًا وسجالات، بدلاً من الاكتفاء بتقديم أفلام تُعرض في الصالات، وإنْ يرتكز التقديم، غالبًا، على النقد، أو على بعضه.

في المقابل، فإن حركةً نقدية، أو بالأحرى ملامح حركة نقدية، تبرز في بيروت عبر تخصيص صحفٍ يومية ومجلات أسبوعية صفحات مختصّة بالشأن السينمائي، يُشارك فيها نقّادٌ سيكون لهم دورٌ في إيجاد ثقافة سينمائية ترافق مسار صناعة الأفلام واستيرادها وتوزيعها وعرضها. ولعلّ أبرز تجربة في هذا المجال تتمثّل بالثنائي سمير نصري وجان ـ بيار غو ـ بلتان في الصحيفة اليومية اللبنانية "لوريان لو جور"، الناطقة باللغة الفرنسية. وإذْ يتفرّد اللبناني نصري في إطلاق صحافة نقدية سينمائية باللغة العربية، بعد انتقاله إلى الصحيفة اليومية اللبنانية "النهار"، فإن الفرنسي غو ـ بلتان (المُقيم في بيروت منذ منتصف أربعينيات القرن الـ20، والراحل قبل 10 أعوام) يؤدّي دورًا مهمًّا للغاية في تحديد معالم النقد السينمائي في مدينة تغيب فيها الصناعة وتكثر فيها الأفلام العربية والأجنبية.

الغالبية الساحقة من الصحف اليومية اللبنانية تُفرد حيّزًا للسينما، يُحرّره نقّادٌ، بعضهم يغادر مكاتب الصحافة وينتقل إلى الإخراج، كالمصري يُسري نصرالله، الذي يتولّى كتابة مقالات وتحقيقات سينمائية في الصحيفة اليومية اللبنانية "السفير"، بين عامي 1978 و1982، واللبناني محمد سويد، الذي يخلفه في الصحيفة نفسها أعوامًا طويلة، قبل انتقاله، هو أيضًا، إلى العملين الإخراجي والإنتاجي، المتعلّقين بالأفلام الوثائقية.

هذا كلّه خارج إطار المجلات السينمائية، علمًا أن مجلات متفرّقة، أسبوعية وشهرية وفصلية، لن تتردّد في نشر مقالات أو دراسات سينمائية، من دون أن تكون السينما أولوية لها.

حال المجلات السينمائية في بيروت كحالها في الغالبية الساحقة من المدن العربية، مع التفاوت الواضح في آلية الكتابة والتبويب والمقاربات. فهل تُلقى مسؤولية التعطيل والتوقّف على الجانب الماليّ البحت، أم أن أسبابًا أخرى تحول دون استمرار الصدور سنين مديدة؟ يصعب اختزال الأسباب بكلماتٍ ربما لن تفي الواقع حقّه، لكن التمويل أساسيّ في صناعة كلّ شيء، والمجلة صناعة بدورها، تحتاج إلى أموالٍ لصدورٍ دائم وسوي وفعّال ومُثابر.

بعض تلك المجلات يعكس واقعًا اجتماعيًا وثقافيًا يعرفه البلد منذ نشأته الحديثة (22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1943): التعدّد اللغوي، وتحديداً العربية والفرنسية، بالإضافة إلى اللغة الإنكليزية، التي تنمو لاحقًا فتُشكّل منافسة حقيقية للفرنكوفونية، بكل ما تعنيه هاتان المفردتان (الفرنكوفونية والأنغلوساكسونية) من معانٍ في اللغة والثقافة والسلوك الاجتماعي. مجلات قليلة تصدر بالفرنسية، لاهتمام أصحابها بالشريحة الفرنكوفونية في البلد، التي تُمثّل جزءًا بارزًا من البورجوازية اللبنانية، وإنْ كان يميل بعض أبنائها إلى "اليسار الفرنكوفوني"، كما يوصفون. ولن يكون عبثيًا إصدار صحفٍ باللغتين الفرنسية والإنكليزية، وإنْ يكن عددها أقلّ بكثير من تلك الصادرة باللغة العربية؛ ولن يكون عبثيًا أيضًا أن يتبلور مفهومٌ ما للنقد السينمائي في الصحافة اللبنانية الناطقة باللغة الفرنسية، بفضل اشتغالات نصري وغو ـ بلتان، قبل انتقال الأول إلى "النهار".

لذا، ترتبط حكاية النقد السينمائي اللبناني بالكتابات الصحافية، التي تمتلك شيئًا كثيرًا من تقنية النقد والغربلة، من دون التغاضي عن الجوانب الصحافية الأخرى، كالتحقيقات والحوارات مثلاً. وهذا كلّه يبتعد كلّيًا عن "أخبار الفن والفنانين"، التي تحفل بها مجلات فنية لها صيت كبير (إيجابي وسلبي) في المجال الفني البحت، وإنْ يكن للسينما، أخبار ونمائم وحوارات خفيفة، مكانها إلى جانب الغناء والموسيقى والرقص، وغيرها من أشكال الفنون.

التجارب عديدة، وأوقات صدور المجلات السينمائية مختلفة: بين عامي 1973 و1975 مثلاً، يُصدر المخرج جورج شمشموم مجلة "فيلم" باللغتين العربية والفرنسية، يتولّى الزميل محمد رضا مسؤولية الأولى، ويُشرف إدغار نجار على الثانية. أهمية تلك التجربة تكمن في مزجها بين الصحافي ـ المهنيّ والنقديّ الذي يُتابع أحوال صناعة السينما في البلد ومحيطه العربي، كما في العالم، من خلال العروض المُقامة في الصالات البيروتية تحديدًا. ولعلّ إصدار "فيلم" في تلك الفترة، الغنيّة بالمحاولات التجديدية في السينما (كما في الفنون والآداب والصحافة وغيرها)، ينبثق من رغبة في معاينة الغليان الثقافي والفني الحاصل في بيروت، عشية اندلاع حربها الأهلية. أو ربما تُلبّي التجربة حاجة المدينة إلى مجلة، لن تبلغ مرتبة السجال النقدي الذي تصنعه "دفاتر السينما" و"بوزيتيف" مثلاً في باريس، بقدر ما تملأ فراغًا، أو تحاول أن تملأ فراغًا في المشهد السينمائي اللبناني.

في الفترة نفسها، تُصدر وزارة الإعلام (يُذكر أن وزارة الثقافة اللبنانية تنشأ في المرحلة اللاحقة للنهاية المزعومة للحرب الأهلية، أي في بداية تسعينيات القرن الـ20) "نشرة" يُشرف عليها وليد شميط، أحد النقّاد المُساهمين في بلورة مفهوم "نادي السينما" في بيروت، وفي مناقشة أحوال الصناعة وهمومها وارتباطاتها بوقائع العيش في مدينةٍ، تعيش انقلابات وتبدّلات وتغييرات جمّة، في أعوام قليلة حينها. لكن الـ"نشرة" تُعنى بمسائل تقنية بحتة، كمتابعة المؤتمرات والندوات الحاصلة في لبنان، وتقديم معلومات وإحصائيات مختلفة في المجال
السينمائي.

لاحقًا، يُصدر الناقد اللبناني إبراهيم العريس، المُشارك بدوره مع وليد شميط في تفعيل ما يُعرف بـ"السينما البديلة"، في سبعينيات القرن الـ20، مجلة فصلية تحمل عنوانًا تقليديًا، "السينما العربية"، ويموّلها "مركز دراسات الوحدة العربية" في بيروت (العدد الأول، شتاء 2015). لكن المجلة غير متمكّنة من إحداث تغيير في علاقة الصناعة بالنقد، لاكتفائها بجمع مقالاتٍ لزملاء المهنة، ونشرها بشكلٍ عشوائيّ في مطبوعة تعتمد تصميمًا وتبويبًا كلاسيكيين. ولأن التمويل قليلٌ، تتوقّف المجلة بعد 5 أعداد، أحدها مزدوج.
المساهمون