في العقود الأخيرة، الممتدة بين نهاية القرن الـ20 ومطلع القرن الـ21، عانى المشهد السينمائي العراقي من انعدام المجلات السينمائية، بل ندرتها، تلك المعنية بنشر الثقافة والوعي السينمائيين، أسوة بمعظم البلدان العربية ودول المنطقة، التي عاشت ما يشبه المدّ والجزر في حركتها السينمائية، المفضية إلى إنتاجات سينمائية متباينة، شكلاً ومضمونًا وفاعلية وحضورًا، نسبةً إلى الأوضاع والمتطلّبات والمستلزمات الإنتاجية الضخمة، والمغايرة ـ إلى حدّ كبير ـ للإنتاجات الفنية الدرامية وغير الدرامية الأخرى.
بدءًا من خمسينيات القرن الماضي، صدرت مطبوعات دورية متخصّصة في فن السينما، استقطبت معنيين بالفن السابع، بينهم نقاد سينمائيون وعاملون في الصناعة، تأليفًا وإخراجًا وتمثيلاً وتقنيات وإنتاجًا وتوزيعًا، ساهموا في تحريرها، أمثال كاميران حسني وحبيب الملاك ويوسف العاني وسعاد الهرمزي وصادق الصائغ، وآخرين.
ففي الخمسينيات تلك، أصدر المخرج كاميران شفيق حسني ـ بعد عودته من الولايات المتحدة الأميركية، إثر انتهائه من دراسة السينما في إحدى جامعات كاليفورنيا ـ أول مجلة عراقية متخصّصة في الفنون السمعية والبصرية، باسم "السينما". كان ذلك في 21 سبتمبر/أيلول 1955، وفيه تغطية لـ"سعيد أفندي"، الذي أنتجته "شركة اتحاد الفنانين". استمرت المجلة في الصدور حتى العدد 73 (13 فبراير/شباط 1956).
في بداية السبعينيات المنصرمة، صدر العدد الأول من مجلة "مسرح وسينما"، كملحق لمجلة "الإذاعة والتلفزيون"، لكن صدورها لم يستمرّ كثيرًا. الطريف أنّ المجلة عاودت الصدور أكثر من مرة في التسعينيات، لكنها كانت تُصدر عددًا واحدًا كل فترة، آخرها عام 2008. وامتدت التجربة إلى ما بعد ذاك العام، مع إصدار دوريات معنية بالسينما والمسرح، كما فعلت "دائرة السينما والمسرح" أكثر من مرة، حتى مطلع ثمانينيات القرن الـ20. لكن، بسبب الحرب العراقية ـ الإيرانية، توقّف صدورها. ثم تلتها تجارب أخرى، أواخر تسعينيات القرن نفسه، مع إصدار نشرة "كلاكيت"، وتخصيص صفحات عديدة بالسينما في صحف يومية ومجلات أسبوعية، فضلاً عن مجلة "الإذاعة والتلفزيون" السابقة على مجلة "سينما ومسرح". وأعقب هذه المرحلة صدور الصحيفة الأسبوعية "عالم السينما"، التي توقّفت هي أيضًا بعد صدور أعدادٍ قليلة.
اقــرأ أيضاً
في بداية يناير/كانون الثاني 2019، صدر العدد الأول من "السينمائي"، بإشراف سعد نعمة، على أمل استمرار صدورها إنْ تمّ تأمين تمويل ثابت لها.
في هذا الإطار، يقول الناقد أحمد ثامر جهاد إن انتعاش الثقافة السينمائية، بأشكالها المختلفة، "متأتٍ من حراك الإنتاج السينمائي وفاعليته في كلّ بلد"، مضيفًا أن "العراق، بالنسبة إلى بلدان عربية أخرى، تأخّرت السينما فيه ـ بشكل ملحوظ ـ عن اللحاق بأصناف ثقافية وفنية أخرى، وبمساراتها الفاعلة والمؤثّرة، إذْ لم تصل السينما إلى المستويات التي بلغها المسرح والرواية والشعر والتشكيل، ولم تنل ـ حتى لدى النخب الثقافية نفسها ـ المكانة التي تستحقها، بينما اعتُبرت طوال عقود مجرّد متعة عابرة".
ويرى جهاد أن حال المجلات والكتب السينمائية هي الحلقة الأفقر في المشهد السينمائي المتعثّر وغير المستقرّ، في العقود الثلاثة الماضية على الأقل: "اليوم، بفعل انتشار وسائل التواصل وثورة الاتصالات والتأثيرات الكبيرة للميديا، هناك بشائر بعودة الطموح السينمائي، مشفوعًا بثقافة قوامها الكتابات النقدية والصحافية الرصينة، ناهيك عن المطبوعات الفنية الجادة، رغم محدوديتها.
لكن ذلك يحدث في مناخ لا يزال يؤمن بثقافة التحريم، ويتغافل عمدًا عن أهمية التربية الجمالية لذائقة الجمهور، فضلاً عن غياب تقاليد العمل، والتغاضي عن استثمار الخبرات الفنية لخلق قاعدة رصينة، يُمكنها تأسيس نهضة سينمائية في المستويات كافة، بدعم مؤسّساتي واضح الأهداف والمعالم، ومُخطَّط له بثقة عالية".
ويضيف جهاد: "ربما يجد المهتمّ بالإجابة عن أسئلة تُعنى بثقافة انتعاش المطبوعات السينمائية، أو سطحيّتها، خيبة كبيرة في تقصّي براهين صورة الواقع المرير ذاك"، متسائلاً: "كم عدد الذين يقتنون كتابًا سينمائيًا، يفضّلونه على كتب أخرى؟ وكم عدد الكتب السينمائية والمجلات المتخصّصة التي تصدر في العام الواحد عن مجمل دور النشر في العراق؟ بإمكانك أن ترى الصورة الأوضح إذا تساءلت عن عائدات تلك المطبوعات إجمالاً. فلماذا على المرء أن يقرأ كتابًا أو مجلة سينمائية، طالما أنه لا يُشاهد فيلمًا سينمائيًا أصلاً؟ باختصار، أرى أن الهمّ السينمائي غائبٌ عندنا إلى حدّ كبير، وكلّ ما نفعله يدور في أفلاكٍ محدودة، نأمل أنْ تتّسع وتتطوّر".
اقــرأ أيضاً
أما الأكاديمي فراس الشاروط، فيرى أن دور المجلات السينمائية "يُضفي غنى فكريًا عند المرء"، مستشهدًا بالمشهد السينمائي الإيراني، حيث "توجد أكثر من 20 مجلة سينمائية"، وهذا "دليلٌ على منظومة البلد التي تعتبر السينما حيّزًا مهمّا، ثقافيًا وإعلاميًا، من دون تناسي خروج ملايين الناس لوداع جثمان مُخرجها الأبرز عباس كياروستامي. كذلك الحال في أميركا، وفيها عدد كبير من المجلات السينمائية المتنافسة في تقديم الجديد بخصوص السينما". وأضاف الشاروط: "إنْ كان لنا أن نتذكّر دور المجلات السينمائية الثقافية، فلا بدّ من التوقّف عند المجلة الفرنسية "دفاتر السينما"، التي "خرّجت" نقادًا تحوّلوا إلى أهم صانعي "الموجة السينمائية الجديدة" (في فرنسا)".
ويرى الشاروط أن "المتابع الدقيق يجد فراغًا كبيرًا في غياب إصدارٍ فني كهذا، يُترجم ويُوثّق مسيرة السينما، ومسيرة البلد ووجوده الفكري والثقافي". إذْ "ربما يجد البعض مما يحتاجه من معلومات عن طريق منظومة التواصل الاجتماعي (إنترنت)، التي تُغني المتابع وتُشبع نهمه إلى ما يفتقده من معلومات. لكن هذه الميزة ليست دائمة، فالمعلومة تختفي كلّما أضيفت معلومات أكثر عليها. لذلك، يبقى للمجلة الورقية شغف الأصالة، ورائحة الماضي الذي لم يتغيّر مع موجة وسائل الاتصال الحديثة".
من جهته، قال الناقد السينمائي علي حمود الحسن إن أسباب ظهور المجلات السينمائية واختفائها في العراق "ظاهرة عالمية وعربية أيضًا"، مضيفًا أنه "لا بدّ من الإشارة إلى أن المطبوعة المتخصّصة ليست ترفًا، بل جزء من بنية خطاب الإرسال والتلقّي بين صنّاع الفيلم وجمهوره". ويرى "أن لغياب المجلات السينمائية أسبابًا عديدة منها: عدم قدرتها على تمويل نفسها، فهي نخبوية وتستهدف جمهورًا محدّدًا؛ ومضمونها على صعيد الرؤية والمستوى الفني يجعلها مغتربة، فليس معقولاً أن تكون هناك مجلات سينمائية في بلدٍ بلا سينما". لذلك، كما يُضيف الحسن، "يظهر هذا النوع من المطبوعات كشهبٍ ثم ينطفئ"، مشيرًا إلى أن هذا "ربما يبدو مفارقة، فخمسينيات القرن الماضي شهدت ظهور مجلة سينمائية ناجحة اسمها "السينما"، كانت تحصل على إعلانات المنتجين ودعمهم، أولئك الذين يطمحون إلى تسويق أفلامهم عبر كتابات الصحافيين الفنيين عنها. لكنها لم تستمر طويلاً، إذ أغلقت الشركة المُنتجة. ثم ظهرت مجلات أخرى رصينة وناجحة، استمر بعضها فترات طويلة، لا سيما تلك التي تموّلها الحكومة، كمجلة "السينما والمسرح" الخاضعة لـ"بروباغندا" السلطة. أما المجلات التي ظهرت بعد عام 2003، فقليلة جدًا، صدر بعضها بحماسة، ثم توقف بعد أعداد قليلة، كـ"شاشات".
اقــرأ أيضاً
ففي الخمسينيات تلك، أصدر المخرج كاميران شفيق حسني ـ بعد عودته من الولايات المتحدة الأميركية، إثر انتهائه من دراسة السينما في إحدى جامعات كاليفورنيا ـ أول مجلة عراقية متخصّصة في الفنون السمعية والبصرية، باسم "السينما". كان ذلك في 21 سبتمبر/أيلول 1955، وفيه تغطية لـ"سعيد أفندي"، الذي أنتجته "شركة اتحاد الفنانين". استمرت المجلة في الصدور حتى العدد 73 (13 فبراير/شباط 1956).
في بداية السبعينيات المنصرمة، صدر العدد الأول من مجلة "مسرح وسينما"، كملحق لمجلة "الإذاعة والتلفزيون"، لكن صدورها لم يستمرّ كثيرًا. الطريف أنّ المجلة عاودت الصدور أكثر من مرة في التسعينيات، لكنها كانت تُصدر عددًا واحدًا كل فترة، آخرها عام 2008. وامتدت التجربة إلى ما بعد ذاك العام، مع إصدار دوريات معنية بالسينما والمسرح، كما فعلت "دائرة السينما والمسرح" أكثر من مرة، حتى مطلع ثمانينيات القرن الـ20. لكن، بسبب الحرب العراقية ـ الإيرانية، توقّف صدورها. ثم تلتها تجارب أخرى، أواخر تسعينيات القرن نفسه، مع إصدار نشرة "كلاكيت"، وتخصيص صفحات عديدة بالسينما في صحف يومية ومجلات أسبوعية، فضلاً عن مجلة "الإذاعة والتلفزيون" السابقة على مجلة "سينما ومسرح". وأعقب هذه المرحلة صدور الصحيفة الأسبوعية "عالم السينما"، التي توقّفت هي أيضًا بعد صدور أعدادٍ قليلة.
في بداية يناير/كانون الثاني 2019، صدر العدد الأول من "السينمائي"، بإشراف سعد نعمة، على أمل استمرار صدورها إنْ تمّ تأمين تمويل ثابت لها.
في هذا الإطار، يقول الناقد أحمد ثامر جهاد إن انتعاش الثقافة السينمائية، بأشكالها المختلفة، "متأتٍ من حراك الإنتاج السينمائي وفاعليته في كلّ بلد"، مضيفًا أن "العراق، بالنسبة إلى بلدان عربية أخرى، تأخّرت السينما فيه ـ بشكل ملحوظ ـ عن اللحاق بأصناف ثقافية وفنية أخرى، وبمساراتها الفاعلة والمؤثّرة، إذْ لم تصل السينما إلى المستويات التي بلغها المسرح والرواية والشعر والتشكيل، ولم تنل ـ حتى لدى النخب الثقافية نفسها ـ المكانة التي تستحقها، بينما اعتُبرت طوال عقود مجرّد متعة عابرة".
ويرى جهاد أن حال المجلات والكتب السينمائية هي الحلقة الأفقر في المشهد السينمائي المتعثّر وغير المستقرّ، في العقود الثلاثة الماضية على الأقل: "اليوم، بفعل انتشار وسائل التواصل وثورة الاتصالات والتأثيرات الكبيرة للميديا، هناك بشائر بعودة الطموح السينمائي، مشفوعًا بثقافة قوامها الكتابات النقدية والصحافية الرصينة، ناهيك عن المطبوعات الفنية الجادة، رغم محدوديتها.
لكن ذلك يحدث في مناخ لا يزال يؤمن بثقافة التحريم، ويتغافل عمدًا عن أهمية التربية الجمالية لذائقة الجمهور، فضلاً عن غياب تقاليد العمل، والتغاضي عن استثمار الخبرات الفنية لخلق قاعدة رصينة، يُمكنها تأسيس نهضة سينمائية في المستويات كافة، بدعم مؤسّساتي واضح الأهداف والمعالم، ومُخطَّط له بثقة عالية".
ويضيف جهاد: "ربما يجد المهتمّ بالإجابة عن أسئلة تُعنى بثقافة انتعاش المطبوعات السينمائية، أو سطحيّتها، خيبة كبيرة في تقصّي براهين صورة الواقع المرير ذاك"، متسائلاً: "كم عدد الذين يقتنون كتابًا سينمائيًا، يفضّلونه على كتب أخرى؟ وكم عدد الكتب السينمائية والمجلات المتخصّصة التي تصدر في العام الواحد عن مجمل دور النشر في العراق؟ بإمكانك أن ترى الصورة الأوضح إذا تساءلت عن عائدات تلك المطبوعات إجمالاً. فلماذا على المرء أن يقرأ كتابًا أو مجلة سينمائية، طالما أنه لا يُشاهد فيلمًا سينمائيًا أصلاً؟ باختصار، أرى أن الهمّ السينمائي غائبٌ عندنا إلى حدّ كبير، وكلّ ما نفعله يدور في أفلاكٍ محدودة، نأمل أنْ تتّسع وتتطوّر".
أما الأكاديمي فراس الشاروط، فيرى أن دور المجلات السينمائية "يُضفي غنى فكريًا عند المرء"، مستشهدًا بالمشهد السينمائي الإيراني، حيث "توجد أكثر من 20 مجلة سينمائية"، وهذا "دليلٌ على منظومة البلد التي تعتبر السينما حيّزًا مهمّا، ثقافيًا وإعلاميًا، من دون تناسي خروج ملايين الناس لوداع جثمان مُخرجها الأبرز عباس كياروستامي. كذلك الحال في أميركا، وفيها عدد كبير من المجلات السينمائية المتنافسة في تقديم الجديد بخصوص السينما". وأضاف الشاروط: "إنْ كان لنا أن نتذكّر دور المجلات السينمائية الثقافية، فلا بدّ من التوقّف عند المجلة الفرنسية "دفاتر السينما"، التي "خرّجت" نقادًا تحوّلوا إلى أهم صانعي "الموجة السينمائية الجديدة" (في فرنسا)".
ويرى الشاروط أن "المتابع الدقيق يجد فراغًا كبيرًا في غياب إصدارٍ فني كهذا، يُترجم ويُوثّق مسيرة السينما، ومسيرة البلد ووجوده الفكري والثقافي". إذْ "ربما يجد البعض مما يحتاجه من معلومات عن طريق منظومة التواصل الاجتماعي (إنترنت)، التي تُغني المتابع وتُشبع نهمه إلى ما يفتقده من معلومات. لكن هذه الميزة ليست دائمة، فالمعلومة تختفي كلّما أضيفت معلومات أكثر عليها. لذلك، يبقى للمجلة الورقية شغف الأصالة، ورائحة الماضي الذي لم يتغيّر مع موجة وسائل الاتصال الحديثة".
من جهته، قال الناقد السينمائي علي حمود الحسن إن أسباب ظهور المجلات السينمائية واختفائها في العراق "ظاهرة عالمية وعربية أيضًا"، مضيفًا أنه "لا بدّ من الإشارة إلى أن المطبوعة المتخصّصة ليست ترفًا، بل جزء من بنية خطاب الإرسال والتلقّي بين صنّاع الفيلم وجمهوره". ويرى "أن لغياب المجلات السينمائية أسبابًا عديدة منها: عدم قدرتها على تمويل نفسها، فهي نخبوية وتستهدف جمهورًا محدّدًا؛ ومضمونها على صعيد الرؤية والمستوى الفني يجعلها مغتربة، فليس معقولاً أن تكون هناك مجلات سينمائية في بلدٍ بلا سينما". لذلك، كما يُضيف الحسن، "يظهر هذا النوع من المطبوعات كشهبٍ ثم ينطفئ"، مشيرًا إلى أن هذا "ربما يبدو مفارقة، فخمسينيات القرن الماضي شهدت ظهور مجلة سينمائية ناجحة اسمها "السينما"، كانت تحصل على إعلانات المنتجين ودعمهم، أولئك الذين يطمحون إلى تسويق أفلامهم عبر كتابات الصحافيين الفنيين عنها. لكنها لم تستمر طويلاً، إذ أغلقت الشركة المُنتجة. ثم ظهرت مجلات أخرى رصينة وناجحة، استمر بعضها فترات طويلة، لا سيما تلك التي تموّلها الحكومة، كمجلة "السينما والمسرح" الخاضعة لـ"بروباغندا" السلطة. أما المجلات التي ظهرت بعد عام 2003، فقليلة جدًا، صدر بعضها بحماسة، ثم توقف بعد أعداد قليلة، كـ"شاشات".
هذه تجارب، أصحابها عشّاق متحمّسون للسينما، لكنهم حالمون. فهم يعتمدون غالبًا على تمويل آنيّ، ولا يدفعون بدلاً ماليًا لمن يستكتبونهم، ولا يفكّرون جدّيًا بتسويقها تجاريًا". وينتهي الحسن إلى القول إنه لا يعتقد بمستقبلٍ "ينتظر أية محاولة أخرى، خصوصًا بعد الثورة الرقمية الهائلة، وتعدّد مصادر القراءة، ووجود محرّك البحث "غوغل" أيضًا".