بنصفِ جسد.. وجواز سفر!

02 أكتوبر 2017
+ الخط -
لسنا إلا بقايا حبرٍ تكتب على الورق، لا يسعها إلا أن تنثر الألم على الشاشات. ما أقبح شاشاتنا اليوم، التي لا تحكي إلا الانكسارات والانهزامات، والتي سال الدم على رأسها وطفح. غريبٌ كل هذا الجنون الذي يحصل في بلادنا سورية، سلامٌ علينا ونحن نموت حسرةً على ترابٍ حرٍ يلفُّنا في برزخنا الجديد، ونحن نختبئ وراء عجزنا بالاستسلام للموت، ونتلحّف أمام مصيرنا المرّ ببقايا مخزوننا من كلمات الرثاء والحسرة، التي جفّت وما عادت تطيق الرثاء.

إنّنا غريبون، حتى في أوطاننا غريبون، يبعد عنّي صديقي في حمص أقل من 150 كيلومتراً، أي ما يقارب ساعة ونصف الساعة في السيارة، وأحياناً دقيقتين تحتاجها طائرة حربية للوصول إلى إدلب، يا إلهي كم هو بعيد، لربما لن أراه ثانيةً إلا بعد أن نعبر على جثث بعضنا البعض، فلا شيء يوصل تلك المسافات سوى كوم من اللحم تجتثّ فيها لعنة المسافات وتقطع أوصالها المعقودة على أعناقنا بالكاد تقتلنا. 

يخبرني بكل ثقة أن الحرب في سورية ستنتهي قريباً. أعرف عينيه دوماً حين تكذبان، كلما حاولتا تخفيف حجم اليأس القابع في صدورنا. أقول له مُحْبِطاً عزيمته العنيدة، قد أراك في باريس، قد أراك في جزيرة الحرية بأميركا البعيدة آلاف الكيلومترات عنا، قد أراك إن خرجنا، كلٌّ من محطته، لكن هيهات هيهات أن نلتقي في سوق حمص العتيق أو في ساحة الأمويين أو سوق الحميدية أو قلعة حلب، انسَ يا صديقي، وتعال نذهب إلى جزيرة الحرية فعلاً بأميركا، حيث لا صوت للسلاح، لا صوت للنار ولا صوت للموت، وأهم من ذلك كلّه لا صوت للشر، الذي بات يسكن كل عنيد آثم بسلاحه بالكاد يخنق حناجرنا فيه.

قطعت السياج الحدودي بيننا وبين تركيا، بطريقة غير شرعية، لأخضع لدورة تدريبية، احتجت 3 أيام حتى تسرّبت من بين الأسلاك، 3 أيام بلياليها بين الجبال والوديان ووحشة الليل، أي ما يعادل 72 ساعة رغم الخطر الذي يحيط بنا، وبالنهاية استطعت العبور إلى الجانب الآخر، إلى الجانب الذي تحرّش بأسئلتي الغليظة فوراً والمُحكم عليها بالفشل في الصواب، يا إلهي، العالم يعمّر ونحن ندمّر، هل يا ترى سنمتلك يوماً الكهرباء أو الماء، ونتخلص من دخان مولدات الكهرباء المحرّض على السرطان والأمراض في إدلب؟ وتركت السؤال عالقاً للزمن عساه يجيب يوماً. يا لنا من بسطاء، الماء والكهرباء، هذه أقصى همومنا!

أنهت المدربة حقيبتها العلمية، وودعتنا قبل أن تتجه إلى لندن، بضع ساعات قليلة وصلت الشابة الفلسطينية إلى بريطانيا بلا أعباء سفر، وبلا شقاوة طريق موحش، وبقينا نصارع طريق العودة إلى سورية، ونقرع باب المحاولات الخطيرة مجدداً بالعبور. 4 أيام أخرى تمكنا من العبور وقطع 3 كيلومترات فقط كنت أراهن فيها على الحياة والموت، لهذه الدرجة أصبحنا بلا هوية وبلا وطن ومشردين في أصقاع الدنيا، نتسلل كالعصافير العصية على الجغرافيا والهوية. 

يا أصدقائي.. نحن ضائعون بين الخرائط، ضائعون بين موجات الرياح، وهبوب التقسيم، كلٌّ يلوح بسيفه ليقضم أجزاءً كان لنا فيها بعض الذكريات، ليقطع من أجسادنا ومن قلوبنا حكايا عابرة ومدناً معمورة كنا نتمناها أن تعود. لكن هل ستعود حقاً ذات يوم؟ أم تحتاج منّا براءة ذمة أو جواز السفر؟

دلالات
821A5168-6F20-4962-8A3D-3682E9034A89
ياسين الأخرس

كاتب صحافي ومذيع طالب جامعي أدب فرنسي - مراسل إذاعي لدى نسائم سوريا - كاتب صحافي لدى مجلة مُبادر ومجلات أخرى. يقول عن نفسه: أسعى لأعود طالباً جامعياً بعد أن تسترد البلاد عافيتها، نكتب كي يروا ويرون ما لا نكتب، بعد أن تحول كل شيء إلى حرب.