يستند قضاء زحلة على الجبال الفاصلة بين لبنان وسورية، وتلتقي بعض بلداته كقوسايا ومجدل عنجر مع الأراضي السورية، في جغرافيا غير مُستقرة أمنياً وسياسياً، وهو ما انعكس على كافة بلدات القضاء، التي ضجّ سماء بعضها، كعنجر والمرج وبر الياس، بأصوات القصف المُركز لقوات النظام السوري وحلفائه اللبنانيين داخل الأراضي السورية.
كما تحوّلت الطريق الدولية إلى أحد الأسلحة في المعارك غير الحربية التي تخوضها بعض الأطراف في لبنان، لدعم الشعب السوري، وهو ما ترجمه بعض علماء البقاع السُنّة الذين قطعوا الطريق عام 2013، على ما بات يُعرف بـ"صهاريج الموت"، التي كانت تنقل المازوت إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري في دمشق وريفها، وقيل يومها إنها تصل إلى مراكز قوات النظام السوري مباشرة. كما شهدت الطريق حالات قطع عدة احتجاجاً على "التنقل الحرّ" لمقاتلي "حزب الله" من وإلى سورية للمشاركة في المعارك هناك.
وتحوّلت الطريق الدولية نفسها إلى ورقة ضغط "نصرة لعرسال" في البقاع الشمالي بعد حصارها وإغلاق مدخلها الوحيد من قبل بعض أبناء بلدة اللبوة ذات الأغلبية الشيعية، التي تشكل طريقها المنفذ الوحيد إلى داخل عرسال.
هكذا ترسم التطورات في سورية مسار الحياة في زحلة القضاء وزحلة المدينة. مع العلم أن هذه الطريق نفسها واكبت سابقاً مرور الأرتال العسكرية السورية لحصار زحلة عام 1980 خلال الحرب الأهلية (1975-1990)، فضلاً عن أن الجبال المتداخلة بين البلدين على حدود لبنان شهدت دخول المليشيات الفلسطينية التابعة للنظام السوري، للمشاركة في الحصار خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وبقي وجودها العسكري حتى اليوم في قوسايا، وفي سلسلة طويلة من الأنفاق العسكرية العميقة، التي تصل لبنان بسورية.
وسط كل هذا، يستلقي قضاء زحلة أيضاً على أطراف سهل البقاع (الخزان الغذائي الزراعي للبنان)، وهو ما جعله يؤدي دوراً مهماً على الصعد الاقتصادية والسياسية في البلاد منذ ما قبل استقلال لبنان (1943) حتى اليوم. كما ساهم التنوّع الطائفي والمذهبي في القضاء في صياغة تحالفات سياسية محلية، جمع فيها بعض الزعماء المحليون أكثر من طائفة ضمن تحالف واحد، فاتخذت مدينة زحلة لقبها: "مقبرة الأحزاب"، وترجمته في مُختلف الاستحقاقات الانتخابية. وهو ما دفع إلى خرق الزعامات المحلية في زحلة، قاعدة أحادية الانتماء الطائفي في الأحزاب، كـ"الكتلة الشعبية"، التي صاغ مؤسسها الراحل جوزيف سكاف زعامة جمعت بين المسيحيين والمُسلمين السُنّة في القضاء.
وعليه، تخوض زعيمة التكتل ميريام سكاف، أرملة الوزير الراحل الياس سكاف، نجل جوزيف، رمز الإقطاع المسيحي في المنطقة، معركة انتخابية بلدية غير مُتكافئة بين المُرشح المحبوب محلياً، المهندس أسعد زغيب، المدعوم من قبل الأحزاب المسيحية الثلاثة الكبرى: "القوات اللبنانية"، و"الكتائب اللبنانية"، و"التيار الوطني الحر"، بعد أشهر قليلة على وفاة إلياس سكاف. يتناقل الزحلاويين حديث الأرملة عن "معركة بلدية ضد من يحاول إقفال منزل الوزير الراحل الياس سكاف". يصف اللبنانيون اتحاد الأحزاب في المعارك الانتخابية بـ"المحدلة" التي تمر فوق الجميع.
تبدو المعركة في زحلة وكأنها "معركة الأحزاب التقليدية ضد الأهالي"، لولا ترؤس زغيب للائحة البلدية المدعومة حزبياً. ذلك لأن زغيب شخص مقبول داخل المدينة، وله تاريخ طويل من العمل في الإدارة المحلية، من خلال تنقّله بين رئاسة البلدية وعضويتها في السنوات العشرين الماضية. يتهامس أهالي المدينة أن "الست ميريام وضعت الفيتو على زغيب، لأنه لم يُسلّم عليها في الكنيسة، فقطعت المجال أمام التوافق". كما أعلنت سكاف، يوم السبت، لائحة "زحلة الأمانة"، وأكدت أن شعار اللائحة "خط ونهج ووصية وعهد الياس سكاف".
"زحلة تحتاج كل شيء"
تُشكّل مدينة زحلة ومجلسها البلدي الذي يضم 21 عضواً، القلب النابض للقضاء ومقصد أهالي المنطقة للعلاج والتجارة والتعليم والسياحة. ويجتمع أهالي البقاع الأوسط في مدارسها ومستشفياتها ومؤسساتها التجارية، كما يلتقون في مطاعمها المنتشرة على ضفاف نهر البردوني الذي يخترق المدينة في وسطها.
تُعتبر زحلة غنية نسبة لمحيطها والأكثر قدرة على تحقيق إدارة محلية مُستقرة، بسبب تجاوز عدد سكانها عتبة 150 ألفاً بحسب ما يشير موقعها الرسمي على الإنترنت. يشبهها كثيرون بمدينة عاليه في جبل لبنان: "أكبر بلدية في نطاقها الجغرافي، وأقرب إلى المدينة منها إلى البلدة". كما تُشكّل زحلة إحدى المساحات المشتركة بين "القوات" و"التيار الوطني الحر"، اللذان سيكرّسان التحالف الجديد بينهما في زحلة على حساب آل سكاف وبدعم كتائبي.
من جهته، يؤكد المرشح زغيب لـ"العربي الجديد"، أن "الأحزاب السياسية في لبنان ترى في القيادات المحلية التي تدعمها في الانتخابات البلدية مفاتيح انتخابية في الانتخابات النيابية، فيتراجع هامش الإنماء لمصلحة السياسة". وهو ما يرفضه زغيب "بعد 6 سنوات عجاف تضاعفت فيها حاجات زحلة الإنمائية في مجالات الإنارة، وفي مشكلة أزمة السير، وصيانة الطرقات، ومكافحة تلوث نهر البردوني، وإنشاء مسلخ صحي جديد، ومتابعة عمل المطمر الصحي، وتحسين عملية الفرز من المصدر"، وهي ملفات إنمائية يُسهب زغيب في شرحها وعرض مراحل تطور العمل عليها.
يتحدث زغيب عن مشاكل الإنماء في زحلة بوصفها "جامعة البلدات المُجاورة التي ترفض الانعزال عن محيطها في البقاعين الشرقي والغربي، فمكافحة التلوث في نهر البردوني يُخفف من تلوث نهر الليطاني وبحيرة القرعون، وإنشاء مطمر صحي جديد للنفايات واستقبال نفايات البلدات المُجاورة بسعر الكلفة أو حتى أقل يحسن من نوعية الحياة في القضاء ككل". كما يتحدث زغيب عن "ضرورة زيادة عدد أعضاء المجلس البلدي في زحلة إلى 24، بعد انضمام بلدة تعنايل إلى المدينة".
وقد سجّلت المدينة خلال التحضير لهذا الاستحقاق البلدي، ضغطاً شبابياً لتأمين توافق محلي يُحقق الإنماء لزحلة بعيداً عن تسييس المعركة، وهو ما ترجمه ترشح المهندس الشاب سامر الهرواي إلى عضوية البلدية، قبل أن يُعلن انسحابه لتسجيل موقف شبابي "رافض لإدارة الأحزاب السياسية للمعركة البلدية في زحلة".
يشير الهرواي لـ"العربي الجديد"، إلى أن "شكل الحياة العامة في لبنان حالياً، لا يسمح بتولي الشباب سدة المسؤولية، بسبب ربط الإنماء بالمال السياسي، وهو ما سنسعى لمعالجته قبل المشاركة في استحقاقات انتخابية مُقبلة". ويتناقل الزحالنة في هذا الإطار حديث لأحد الزعامات السياسية التقليدية في المدينة عن "تكلفة شراء أصوات كل الناخبين في زحلة"، والتي قدّرها بألف دولار للصوت، قائلاً: "يعني البلدية كلها تكلفني 15 مليون دولار (أميركي)".
اللجوء السوري والهاجس الأمني
لا تخلو مائدة الزحليين هذه الأيام من أكوام الفول الأخضر الذي تشتهر به المنطقة، ومن الحديث عن تأثير الوضع الأمني والاقتصادي غير المُستقر في لبنان ككل، على منطقتهم التي تضم إلى أهلها حوالي 166 ألف لاجئ سوري مُسجلين لدى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. يعيش حوالي 57 ألف منهم في مخيمات عشوائية، ويتوزع البقية في منازل أو مزارع داخل البلدات الزحلية، بحسب إحصاءات المفوضية.
في هذا السياق، يصف إمام بلدة مجدل عنجر، نائب رئيس هيئة العلماء المسلمين، الشيخ عدنان أمامة، التعاطي الرسمي اللبناني مع ملف اللاجئين السوريين بـ"العنصري"، ويقول لـ"العربي الجديد" إن "بلدته والبقاع الأوسط عموماً، مغيّبة عن خريطة المساعدات المحلية والأممية التي تجد طريقها إلى اللاجئين في بلدات البقاع الشمالي من دون المرور على المجدل". وذلك رغم حصر زيارات المسؤولين الأمميين والغربيين إلى مخيمات اللاجئين الواقعة في قضاء زحلة، بسبب موقعها القريب من مطار رياق العسكري وبسبب استقرار الوضع الأمني فيها، فكانت زيارة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ورئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون إلى مخيم الدلهمية في بلدة تربل قرب زحلة.
كما يغيب الزفت عن أغلب طرقات مجدل عنجر التي حرثتها ورشة تمديد أنابيب للمياه في أغلب أحياء البلدة، التي أصرت كبرى العائلات فيها على خوض معركة شرسة "ورفض مسعى توافقي قام به علماء البلدة حرصاً على تحسين واقعها الإنمائي بعيداً عن الروح العشائرية المنتشرة في المنطقة"، بحسب أمامة.
ويشير الشيخ إلى "غياب سطوة الأحزاب السياسية السنية التقليدية في المنطقة، بسبب تبني البلدة تاريخياً لنهج ديني لا يتلاقى مع علمانية الأحزاب السنية في لبنان". وهو ما حوّل البلدة إلى بؤرة توتر أمني وأدى لمقتل عدد من أبنائها خلال مداهمات للجيش اللبناني داخل شوارع البلدة خلال العامين الماضيين. يؤكد أمامة أن الوضع الأمني أصبح أفضل بعد التشكيلات الأمنية والعسكرية التي حصلت في لبنان أخيراً، "فالقادة الجدد برّدوا العلاقة بين الأجهزة الأمنية والعسكرية وبين الأهالي".
لكن أمامة يتحدث عن مشكلة أخرى تعاني منها البلدة وهي "تهريب المواطنين السوريين من سورية إلى لبنان، من دون المرور بنقطة الأمن العام في نقطة المصنع الحدودية المجاورة للبلدة". يشير أمامة بإصبعه إلى النقطة التي يجمع فيها المُهربون عشرات السوريين يومياً ويقومون بنقلهم إلى لبنان "مقابل 300 دولار للشخص الواحد". ويتهم أمامة عناصر "سرايا المقاومة" (ميليشيا أسسها حزب الله لتجمع المقاتلين من خارج بيئته المذهبية، وشاركت في أحداث السابع من مايو/أيار 2008) في البلدة برعاية عمليات التهريب، هذه ووصم البلدة بصفات الخروج عن القانون نتيجة تنقل العناصر بالسلاح والسيارات ذات الزجاج العازل داخل الشوارع".