لحظة واحدة. لحظة واحدة فقط وتعود كل المشاعر السيئة التي حاولتَ إخفاءها جاهداً في صخب الحياة اليومية. ستشعر أنك غريب مهما أرغمت عقلك على نكران ذلك، ومهما حاولت تجاهل مقاطع الفيديو الوحشية، تجنباً لالتصاق رذاذ الدم بذاكرتك.
لكنك ضعيف وهشّ وحيّ. وثانية واحدة هاربة من لاوعيك، كافية لدفع عقلك إلى أماكن لا تريدها وكثيراً ما هربتَ منها، كي لا يتضاعف تعبك المزمن. من الظلم حقاً أن تشعر بالدنيا مبللة، فيما أنت جاف ويابس من الداخل.
كان المطر ثقيلاً. وكانت المرة الأولى التي أكرهه فيها. على مدار يومين لم يتوقف إلا ساعة واحدة. وأنا عائدة من رحلة مضنية في أسواق إسطنبول القديمة لشراء سيجارة إلكترونية، جلست قبالتي امرأة خمسينية. رمت السيدة بنفسها على الكرسي الأزرق بعدما أخذت نفساً عميقاً، متلمسةً عظام ركبتيها بحركة دائرية. سألتها أن تجلس مكاني، أنا التي أحب المقاعد المنفردة في وسائل النقل العام.
قالت لي إنها سعودية، أتت مع ابنتيها، التي كانت إحداهما قد زرعت شعراً في مقدمة جبهتها. وحدثتني عن استغرابها من التغيرات التي طرأت على المدينة العملاقة بعد ثلاثين عاماً من زيارتها الأولى لها.
تشيّد إسطنبول جسراً كل بضعة أيام وترفع ناطحة سحاب. العمال لا يهدؤون هنا. خلال ثلاث سنوات صحوتُ على أصوات ورش البناء في كل بيت استأجرتُه أكثر من المنبّه الذي لم أكن أشعر به.
قالت لي السيدة بحسرة: "لاحظتُ وجود الكثير من السوريين هنا". ثم سألت: "كيف تستطيعين تحمّل البرد؟". لم أعرف كيف أرد عليها. خفتُ أن أبدو غبية.
لم تهتم لصمتي، وتابعت أن ابن عمها متزوج من فتاة حلبية، فقدت منزلها منذ خمس سنوات دون أن تتمكن من التواصل مع أهلها. ثم بدأت بالدعاء على ظالمين لم تحدّدهم. وفجأة باغتتني بسؤال آخر: "هل أهلك معك؟". فأصابت نقطة ضعفي. بحروف غير متوازنة أجبتها أن "الفيزا" التي فرضت منعتني من رؤيتهم.
ظلّت مصرّة على الدخول في نقاشات لا أحبها. سألتني لماذا لا أذهب لأزورهم، فأجبتُ بأنني لا أستطيع السفر لأي مكان حتى داخل تركيا، وإن غامرتُ بالسفر خارجها سأكافأ بورقة منع للدخول.
في موقف تقسيم نزلت السيدة مع ابنتيها، لكني ظللت ألاحقها بعينيّ حتى اختفت.
أسئلة السيدة البسيطة والقاسية أعادتني إلى حقيقة أني لستُ في بلدي ولا أملك أية حقوق، رغم كل محاولات الخداع التي أمارسها على نفسي للانتصار في لعبة الحياة.
نفثتُ كثيراً من دخان السيجارة الإلكترونية. سعلتُ كثيراً أيضاً. لكني شعرتُ بالبرد أكثر من أي وقت مضى. ولم ينفع طبق الكنافة الذي التهمتُه، نكاية بالحمية، وكي أنسى ما أصابني من الألم الذي عاودني. كل سكر العالم لن يفعل ذلك.
اقــرأ أيضاً
لكنك ضعيف وهشّ وحيّ. وثانية واحدة هاربة من لاوعيك، كافية لدفع عقلك إلى أماكن لا تريدها وكثيراً ما هربتَ منها، كي لا يتضاعف تعبك المزمن. من الظلم حقاً أن تشعر بالدنيا مبللة، فيما أنت جاف ويابس من الداخل.
كان المطر ثقيلاً. وكانت المرة الأولى التي أكرهه فيها. على مدار يومين لم يتوقف إلا ساعة واحدة. وأنا عائدة من رحلة مضنية في أسواق إسطنبول القديمة لشراء سيجارة إلكترونية، جلست قبالتي امرأة خمسينية. رمت السيدة بنفسها على الكرسي الأزرق بعدما أخذت نفساً عميقاً، متلمسةً عظام ركبتيها بحركة دائرية. سألتها أن تجلس مكاني، أنا التي أحب المقاعد المنفردة في وسائل النقل العام.
قالت لي إنها سعودية، أتت مع ابنتيها، التي كانت إحداهما قد زرعت شعراً في مقدمة جبهتها. وحدثتني عن استغرابها من التغيرات التي طرأت على المدينة العملاقة بعد ثلاثين عاماً من زيارتها الأولى لها.
تشيّد إسطنبول جسراً كل بضعة أيام وترفع ناطحة سحاب. العمال لا يهدؤون هنا. خلال ثلاث سنوات صحوتُ على أصوات ورش البناء في كل بيت استأجرتُه أكثر من المنبّه الذي لم أكن أشعر به.
قالت لي السيدة بحسرة: "لاحظتُ وجود الكثير من السوريين هنا". ثم سألت: "كيف تستطيعين تحمّل البرد؟". لم أعرف كيف أرد عليها. خفتُ أن أبدو غبية.
لم تهتم لصمتي، وتابعت أن ابن عمها متزوج من فتاة حلبية، فقدت منزلها منذ خمس سنوات دون أن تتمكن من التواصل مع أهلها. ثم بدأت بالدعاء على ظالمين لم تحدّدهم. وفجأة باغتتني بسؤال آخر: "هل أهلك معك؟". فأصابت نقطة ضعفي. بحروف غير متوازنة أجبتها أن "الفيزا" التي فرضت منعتني من رؤيتهم.
ظلّت مصرّة على الدخول في نقاشات لا أحبها. سألتني لماذا لا أذهب لأزورهم، فأجبتُ بأنني لا أستطيع السفر لأي مكان حتى داخل تركيا، وإن غامرتُ بالسفر خارجها سأكافأ بورقة منع للدخول.
في موقف تقسيم نزلت السيدة مع ابنتيها، لكني ظللت ألاحقها بعينيّ حتى اختفت.
أسئلة السيدة البسيطة والقاسية أعادتني إلى حقيقة أني لستُ في بلدي ولا أملك أية حقوق، رغم كل محاولات الخداع التي أمارسها على نفسي للانتصار في لعبة الحياة.
نفثتُ كثيراً من دخان السيجارة الإلكترونية. سعلتُ كثيراً أيضاً. لكني شعرتُ بالبرد أكثر من أي وقت مضى. ولم ينفع طبق الكنافة الذي التهمتُه، نكاية بالحمية، وكي أنسى ما أصابني من الألم الذي عاودني. كل سكر العالم لن يفعل ذلك.