بانوراما الوجع

03 يناير 2015

ساعة بيغ بن: اكتمل 2014 ليبدأ عام 2015 (Getty)

+ الخط -

باتت طقوس الاحتفال بقدوم عام جديد تقليداً كونياً، يشمل بقاعاً كثيرة في هذا العالم المجحف الذي يريدون إقناعنا بأنه ليس أكثر من قرية، على الرغم من اتساع الهوة الفادح، على الصعيد الحضاري والثقافي والاقتصادي والمعيشي، بين الشعوب. ما يجعل بلداناً مبتلاة بأنظمة سياسية طاغية ترزح تحت مختلف أشكال الظلم والفقر والفساد. وعلى الرغم من كل السواد الذي يظلل واقعنا العربي الأليم، يبقى الاحتفال بهذا اليوم شأناً شخصياً في نهاية الأمر، وليس لأيٍّ كان حق إطلاق الأحكام، لمجرد ثبوت تهمة اقتراف الفرح. ترقبنا العام الجديد بتوجس وريبة، وأطل علينا رأس السنة محملاً بإرث ثقيل قبيح من ذكريات مريرة لمجازر ارتكبها الصهاينة، بمباركة عربية مشينة، بحق صغار غزة، وفظائع لا تقل وحشيةً ارتكبها مجرم سورية عراب (المومانعه!)، بتواطؤ وتنظير خادش للحياء، من نخب ثقافية يسارية مؤسفة. سوف يتم إضافة هذا السجل غير المشرف إلى تقويمنا العربي الحافل بالظلم والامتهان.
قدر إغريقي لا مناص من تجرع مرارته، غير أن ذلك لم يحل، كما يبدو، دون حالة التأهب والتنافس الدائرة رحاها بين الفنادق الكبرى، لاستقطاب أكبر النجوم وإقامة أقوى الحفلات التي يحجز بعضهم تذاكرها قبل موعدها بأشهر، وتفوق قيمة التذكرة الواحدة راتب شهر لعرب كثيرين يعيلون أسرهم. المناسبة لا تعني شيئاً للسواد الأعظم من المواطنين الغلابى، اللاهثين وراء كفاف يومهم، خبزاً مدعوماً بالعرق والأسى، غير المنخرطين، بأي شكل، في قلق تولي المناصب الرفيعة، غير العابئين، أصلاً، بوزارات تتشكل وأخرى تمضي، فيما يبقى الفقر والإحباط على حالهما. وبالتالي، لا تعني مناسبة رأس السنة لهم سوى أنها ليلة عادية أخرى، ستمضي بالآلية الرتيبة نفسها، وضمن منظومة الضجر إياها. قد يلوذ بعضهم بالنوم المبكر طامحاً إلى دخول عالم الحلم الأكثر رحابة، كأسلوب ذكي للهروب من كلفة الأمل والتوق والرجاء، وهذا تكتيك جدير بالتأمل وانسحاب مشروع، ووسيلة لا تخلو من ابتكار للحد من استهلاك الطاقة. ومن دون أدنى شك، يقضي معظم الناس سهرات تلفزيونية عادية، شأن كل الأيام التالية على الليلة الكبيرة، فمشاهدة التلفزيون هي النشاط الإنساني الأكثر شيوعاً، ولعلها النشاط الوحيد الذي تمارسه العائلة العربية مجتمعة.
مضت الساعات الأخيرة من عامنا الكبيس هذا قبالة التلفزيون، في تطبيق لعرف عربي بامتياز، يكرس نمط حياة يومي، متسمرين أمام الشاشة، ملاصقين المدفأة، متفرجين بحنق دفين على مظاهر الفرح والصخب الدائرة رحاها في شوارع وميادين وأزقة وحارات عواصم الدنيا التي  تتقن مهارة الصخب والاحتفال بأقل الكلف في أرصفة شوارع شديدة الإنارة، كثيرة الأشجار، مزينة ببساطة وجمال  طبيعي، غير مرتبط بمهرجانات تسوق استهلاكية بلاستيكية، خالية من أي قيمة فنية أو جمالية، أو حتى إنسانية، تقام في مولات ضخمة حد الاغتراب والتكرار الغبي. أشجار متواضعة مزينة بمواد بهيجة بأثمان زهيدة كونها ليست مجوهرات أو أحجاراً كريمة (لا سمح الله)، قيمتها ملايين الدولارات كفيلة بإشباع جوعى ومشردين من أعزاء قوم أذلهم الطغيان تحت خيام لا تقيهم برد شتاء صحراوي غادر، يقص عظمهم، ويذكّرهم بمدى كذبة التضامن العروبي وألعاب الإغاثة المفتعلة.
يحتفل الناس في مدن العالم، ببساطة، وسط الشوارع، بمشاركة غرباء، في طقس عفوي بسيط، ينطوي على تضامن إنساني مجاني في لحظة شديدة الخصوصية، هي بمثابة تعبير جمعي عن عشقهم الحياة الحرة البسيطة، الخالية من القضايا الكبرى غير القابلة للحل في المدى المنظور، فيما يتابع المشاهدون العرب الأعزاء سهرتهم، متنقلين بين محطات تبث جميعها برامج ترويحية مصطنعة معلبة، لا تخلو من استثمار مبتذل. يغيب عام آخر عن هؤلاء البسطاء الذين لا تميزهم ملامح فارقة، سوى أعراض كآبة تتراوح حدتها بين فرد وآخر.

 

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.