بؤس الدهرانية

03 فبراير 2015
+ الخط -

على شاكلة "بؤس التاريخانية" لكارل بوبر، و"بؤس العالم" لبيار بورديو، جاء الكتاب ما قبل الأخير للمفكر المغربي، طه عبد الرحمن، الذي صدر عام 2014، (بؤس الدهرانية.. النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين). سعى فيه مفكرنا إلى نقد المشروع (الدنيوي) للحداثة الذي توسلت، من خلاله، بآلية "فصل المتصل"، ففصلت الدين عن كل مجالات الحياة الحيوية، حتى تستقل تلك المجالات بنفسها تدبيراً وتقديراً.

وأطلق طه على عملية انتزاع قطاعات الحياة المختلفة من الدين، اسماً عاماً هو "الدُّنيانية"، التي تتخذ صوراً متعددةً، منها فصل السياسة عن الدين، وهو "العَلمانية"، ومنها فصل الدين عن العلم، وهو "العِلمانية" (بكسر العين)، لكن أشد الانفصالات خطراً، وأبلغَها أثراً، بحسب طه عبد الرحمن، هو "فصل الأخلاق عن الدين"، وهو ما قصده بـ "الدهرانية"، إشعاراً منه بأن فصل الأخلاق عن الدين ينزع عن الأخلاق لباسها الروحي، ويكسوها لباساً زمنياً.

والحقيقة أن قراءة الكتاب لا يمكن أن تؤتي أُكلها، بحسب اعتقادي، إذا ما تمت في معزل عن الإنتاج الفكري السابق لطه عبد الرحمن، ككتابه سؤال الأخلاق، والحق العربي في الاختلاف الفلسفي، والحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، وروح الدين، وروح الحداثة... فكلها لبنات تصبّ في إطار بناء براديغم فكري جديد، ينطلق من الذات، ويستمد أسسه من التراث الإسلامي، ونقد الحداثة المقلّدة.
فطه عبد الرحمن يرى أن ما نشاهده في واقعنا العربي ما هو إلا نقل للحداثة الموجودة في الواقع الغربي، وهو نقل يفتقر إلى الإبداع. ولذلك، يشير إلى وجوب التفريق بين واقع الأشياء وروحها. والروح مجموعة القيم والمبادئ التي يكون الواقع تجسيداً لها؛ فالدخول إلى الحداثة المرجوة يجب أن يكون عن طريق روحها التي تتأسس على ثلاثة مبادئ؛ الرشدية ونصها (لا تقبل وصاية أحد على تفكيرك)، النقد الذي يعني القدرة على الاعتراض على الذات والغير، والشمول الذي يعني عدم الاختصاص بمجال دون آخر.

ولا يغيب عن العارفين بطه عبد الرحمن محاولته، في مشروعه الفكري، إعادة الاعتبار لسؤال الأخلاق، وهو السؤال الذي لم يلق في السياق المعرفي الإسلامي ما يستحقه من الاستشكال الفلسفي، والاستدلال المنطقي، على الرغم من أنه لا يقل أهمية عن الفقه، وعلى الرغم من أن الإنسان يتحدد أساساً بالأخلاق، فإذا استوفى الأخلاق، في حياته، استوفى شرط الإنسانية، كما أن الأخلاق لا تنحصر في مجموعة جزئية من أفعال الإنسان، بل تشمل كل الأفعال بإطلاق؛ فما من فعل يأتيه الإنسان إلا ويصح الحكم عليه بالخير أو الشر، يستوي في ذلك "الفعل الحسي الخالص" كالأكل، و"الفعل العقلي الخالص" كالفهم.

قراءة "بؤس الدهرانية" رحلة فكرية فلسفية روحية ممتعة، ومليئة بالمفاجآت التي تخطف الأفئدة والعقول، وهي على ذلك مغامرة غير محمودة العواقب، إذا ما لم يتزوّد القارئ قبل الشروع فيها بأدوات التلقي وآليات الفهم الصحيحة، لأنها رحلة ستفكك أفكاراً ومفاهيم كثيرة، وستهز الكثير مما يعتبر مسلمات وبديهيات، فشهية طيبة لكل من يبحث عن سبل فكرية جديدة، ويسعى إلى إدراك المعرفة المبدعة الخلاقة.

avata
avata
باديس لونيس (الجزائر)
باديس لونيس (الجزائر)