"شارلي إيبدو" ودوامة الصمت

19 يناير 2015
+ الخط -

تفترض العالمة الألمانية، إليزابيث نوّال نيومان، أن وسائل الإعلام حين تتبنى آراء أو اتجاهات معينة، وفي فترة محددة، فإن القسم الأكبر من الجمهور سوف يتحرك في الاتجاه نفسه، وبالتالي، يتشكل الرأي بما يتناسق وينسجم، في معظم الأحيان، مع الأفكار التي تدعمها وسائل الإعلام، لا سيما التلفزيون، بحثا عن التوافق الاجتماعي. أما الأفراد المعارضون لهذه القضية أو تلك الشخصية، فإنهم يتخذون موقف (الصمت) تجنباً لاضطهاد الجماعة الكبيرة المؤيدة، أو خوفاً من العزلة الاجتماعية، وبالتالي، إذا كانوا يؤمنون بآراء مخالفة لما تعرضه وسائل الإعلام، فإنهم يحجبون آراءهم الشخصية، ويكونون أقل رغبة في التحدث عن هذه الآراء مع الآخرين، أما الذين لديهم آراء منسجمة مع ما تبثه وسائل الإعلام، فإنهم يكونون أكثر نشاطا وجرأة في الإعلان عن هذه الآراء، والتحدث بشأنها للحصول على القبول الاجتماعي.
هذا الكلام الذي يشكل الافتراض الأساسي الذي تقوم عليه نظرية "دوامة الصمت" يبدو منسجما ومتجليا هذ الأيام في المشهد الإعلامي العالمي والفرنسي، بشكل يكاد يكون متطابقاً، على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين سنة على صدوره. أتحدث هنا عن السياق الفرنسي الداخلي الذي يتوجه بقيادة وسائل الإعلام المختلفة إلى إيجاد دوامة صمت رهيبة تجاه الآراء المخالفة والمنتقدة للرسوم المسيئة ولانتشار الإسلاموفوبيا في الغرب عموما، وفي فرنسا خصوصاً، وعزل أصحابها اجتماعياً، ودفعهم إلى الانزواء والتزام الصمت، حتى لا يتعرضوا للنبذ. فالبلد الذي طالما تغنى بحرية الرأي والتعبير كشف عن ازدواجية في الفهم والممارسة، فسبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم نوعٌ من الحرية، أما انتقادُ هذا السبّ ورفضُه فهو إشادة بالإرهاب وعنصرية.

وخير مثال على ذلك ما تعرض له الفكاهي الفرنسي، ديودوني، الذي حجزته السلطات الفرنسية بتهمة الإشادة بالإرهاب، بعد نشره تعليقا على "فيسبوك" يقول فيه: "أشعر أنني شارلي كوليبالي". الممثل نفسه كانت قد أغلقت في وجهه المسارح الفرنسية بسبب تهمة معاداة السامية وإهانة اليهود والسخرية من "المحرقة النازية". المثال الثاني الذي يفضح ممارسات "شارلي إيبدو" التي تتشدق بالحرية، هو الكاريكاتوري موريس سيني (80 عاماً) الشهير بـ "ساين"، أحد أبرز رسامي الكاريكاتير في الجريدة، والذي رسم ابن ساركوزي قبل أربع سنوات وهو يرتدي الزي اليهودي معلقا: إنه أقدم على الزواج من ابنة واحد من أغنى أغنياء يهود فرنسا، لأنه يعرف أن اليهودية مرتبطة بالنجاح الاقتصادي والاجتماعي، فثارت المنظمات اليهودية ضده، وتم اتهامه بالتحريض على الكراهية ومعاداة السامية، وطالبت الصحيفة نفسها من الرسام بالاعتذار، ثم فصلته عندما رفض الانصياع للطلب.
"معاداة السامية" تهمة جاهزة لإلصاقها بكل من تسول له نفسه بالهمز واللمز ضد اليهود، ومن ثم تعريضه إلى عقاب نفسي واجتماعي وقانوني قاس، عن طريق تسليط صوت الإعلام عليه، هنا لا مجال للحديث عن حرية التعبير، فشعب الله المختار فوق القانون والحرية، والهولوكوست مسلمة غير قابلة للتكذيب والسخرية والمساس بقدسيتها. يا له من نفاق!
افتراض "دوامة الصمت" يتجلى، أيضاً، في المسيرة التي دعت إليها باريس، واستجاب لها زعماء ورؤساء من مختلف بقاع الدنيا، في حشد لم يجمعه آلاف القتلى المسلمين في العراق وسورية واليمن والجزائر، في حشد يختزل رسالة غير قابلة لأكثر من تأويل، وهي إخراج جديد لرسالة بوش فيما مضى "من ليس معي فهو ضدي"، فمن لم يسارع في تسجيل حضوره، فهو مهدد بالسقوط في "دوامة الصمت" و"العزلة الدولية".
أخيراً، كمسلمين لم نتوانَ في إحداث دوامات صمت جزئية، عن طريق الانخراط الحماسي الانفعالي في الدعوات المنددة للإساءة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أو عبر الواقع الحقيقي، وهي وإن كانت في جانب منها توحي بمكانة نبينا في قلوبنا، لكنها في حقيقة الأمر ليست إلا ضجيجا غابت في ثناياه الآراء الجادة، وانزوت الدعوات الهادئة، لتفعيل سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتمثّل القيم الصحيحة للإسلام، وتمثيله بالوجه الذي يليق به.
هذا الانخراط لم يزد "شارلي إيبدو" إلا كسبا للمال، فها هي توزع أكثر من خمسة ملايين نسخة، بعد أن كانت لا تتعدى ستين ألفا، وهي التي كانت مهددة بالإفلاس. الأمر الذي لم يكن ليحدث، لو أننا التزمنا برؤية عمر بن الخطاب التي تختزل، في جانب منها، مبدأ نظرية "دوامة الصمت"، حين قال: "أميتوا الباطل بالسكوت عنه".

avata
avata
باديس لونيس (الجزائر)
باديس لونيس (الجزائر)