انقلاب في بيتي

20 يوليو 2016

(جوزيف حرب)

+ الخط -
طلبت مني زيارتها في بيتها على عجل، بحكم أنها صديقتي المقربة، وتربطني بعائلتها علاقة قديمة، وكانت تنتظرني مهمةٌ صعبةٌ، جعلتني أشعر بالرأفة نحو المفاوضين السياسيين، لأن إقناع ابنها الذي رسب في التوجيهي بأن يعيد السنة، لكي يلتحق بالجامعة، كما يخطط له والداه، كانت مهمةً صعبة ومتعثرة، وتحتاج صولات وجولات، فقد أحدث رسوبه انقلاباً في منظومة أسرية عتيدة من الصعب إطاحتها.

كان يجلس بين والديه، ويدلي رأسه، ويضم كفيه، فيما كان الوالدان يتبادلان الحديث، وينظران لي، بمعنى أن علي تأييد ما ذهبا إليه أن التوجيهي ليس نهاية العالم، وأن عباقرة قد رسبوا في التوجيهي سنوات وسنوات. ولكزتني صديقتي الأم بأن أمضي في هذا الطريق، وهي تعرف أن لدي إحصائيات عن هؤلاء العباقرة الأفذاذ، فوجهت له الحديث، حين أسعفتني الذاكرة بقصة شاب مصري، أعاد التوجيهي أكثر من ست عشرة مرة، وحين نجح في السابعة عشرة، قام رئيس الجمهورية بتكريمه. وعلى الرغم من أنني سمعت هذه القصة من أبي، إلا أنني ما زلت أسمعها، وأقرأ عنها منذ فتحت عيني على الدنيا، فلم أعد أعرف أيَّ رئيسٍ مر على مصر، وكرّم هذا الشاب المكابر المثابر؟

لم ينبس الفتى ببنت شفة، ولاحت مني نظرة إلى مروحةٍ صغيرةٍ بدائية الصنع، تدور برشاقةٍ في الجو الحار الخانق، فسألت صديقتي عن مصدرها، فقالت لي، وهي تشير إلى ابنها، وتمط شفتيها، بأنه من قام بتصنيعها، وأضاع وقته في تركيبها من قطع صغيرة مهملة. وهنا، وجدت أنني أمسكت بطرف الخيط، وسألت الفتى الذي أشرق وجهه لسؤالي إن كان يهوى تصليح الأجهزة الكهربائية وتركيبها، فبدأ يتحدّث عن اختراعاته الصغيرة، وبأنه يقوم بإصلاح كل الأعطال الكهربائية في بيتهم، وأصبح الجيران يستدعونه، لإنقاذهم في حال حدوث عطبٍ ما في أحد أجهزتهم. وأردف في توجسٍ، وهو ينقل بصره بين وجهي والديه بالتبادل، أنه يتمنى أن يتعلم أصول المهنة، ويسلك هذا المجال، وأنه لا يحب التاريخ، ولا الرياضيات، ويرى أن دراستهما نوع من العبث وإضاعة الوقت.

غير مؤيدة ولا رافضة وجهة نظر الفتى حول جدوى التعليم الأكاديمي، اقترحت على والديه أن يلتحق ابنهما بإحدى المدارس الصناعية التابعة لوكالة الغوث (أونروا) في غزة، لكي ينمي موهبته، ويصقلها بالدراسة. ودعمت اقتراحي بإبلاغهما أن مجلس الوزراء الفلسطيني صادق على خطةٍ لدمج التعليم المهني والتقني في المدارس الحكومية، مع مطلع العام الدراسي الجديد، وذلك بسبب ارتفاع نسبة البطالة في صفوف الخريجين والأكاديميين، والتي وصلت هذا العام إلى نسبة 56%، وبأن تسعة تخصصات مهنية وتقنية، سيتم دمجها مع المناهج المدرسية في الصفوف الإعدادية، لكي يتم توجيه الطلاب في المستقبل نحو التخصّص المهني الذي يتماشى مع هواياتهم وميولهم.

ثار الأب وهاج، وانتصب واقفاً، وهو يعلن أنه يخطط، منذ ولادة ابنه، أن يلتحق بكلية الحقوق ليصبح محامياً،  فيما احتجت الأم بأنها لن تقبل أن تعيّرها صاحباتها بأن ابنها "صنايعي"، وبأن غباء ابنها هو السبب في رسوبه في التوجيهي. وخلصت من ثورتهما الحمقاء أن هذه المهمة عسيرة، فقرّرت أن استخدم آخر أسلحتي، فكل الأسلحة مباحة في الحروب، فالوالدان كانا يشنان حرباً على ابنهما، وفتحا جبهة الحرب نحو اقتراحي، فذكّرت الأب بأنه شخصياً لم يحصل على التوجيهي، واستطاع الحصول على وظيفته، بسبب منصب والده الراحل، فانكمش على نفسه. أما الأم فذكّرتها بأنها يوم أن حصلت على معدل 50% في التوجيهي، قبل ربع قرن، لم تسع أمها الفرحة، واشترت كيساً كبيراً من الحناء، ووزعته على نساء الحي وفتياته، لكي يخضّبن أيديهن ابتهاجاً بنجاحها. انكمشت الأم بجوار المنكمش الأول، وقرّرت الانسحاب من أرض المعركة، فيما نظر الابن لوالديه نظرة بمعنى "حسابكما معي سيكون عسيراً"، لأنه كان يعتقد أنه ولد لأبوين عبقريين، هما النسختان العربيتان من آينشتاين ومدام كوري.

دلالات
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.