كيس من الأشلاء

14 اغسطس 2024
+ الخط -

من البديهي أن تتوقّع أنّ طفلك الصغير قد قُتل بعد سماع هذه الانفجارات الضخمة في المكان، وحيث نجوت بأعجوبة لأنّك تأخّرتَ قليلاً في نومك، وسبقك الصغير إلى المسجد كما عوّدته، فأنت تعرف هؤلاء الصغار الذين يستيقظون باكراً ليلحقوا برفاقهم، ويكونون قد اتّفقوا في اليوم السابق على اللقاء بعد صلاة الفجر لكي يخطّطوا لرحلة بحثٍ جديدةٍ عن طعام، غير مضمونة النتائج ولا العواقب، وحيث نهش الجوع بطونهم الصغيرة، وحيث يحبّون أن يفرّحوا قلوب أمّهاتهم ببعض الخضار أو الأعشاب التي تصلُح للطهي فوق النار، بحيث تصبح معجوناً غريباً لا يصلح إلّا لإسكات صوت البطون التي تُكركر ليس أكثر.

لا تضع في مخيّلتك ولو واحداً في المليار أن طفلك قد نجا، فهذه الانفجارات كافيةٌ لأن تقتل وتصيب المئات، وكلّ ما عليك أن تبحث عن جثّته، وحين تهرَع إلى المكان ترى الهرْج والمرْج، فغيرك كثرٌ ممن أسرعوا إلى تفقّد أحبّتهم، وحين ترى النيران المشتعلة تكتشف أن العثور على جثّة كاملة للطفل ضربٌ من المستحيل، وتتأكّد فعلاً أنّ عصر المعجزات قد ولّى، وعليك أن تبحث عن أشلائه فقط.

تدمع عيناك، ثم تنهار وتبدأ البكاء بصوت مرتفع، وأنت تبحث عن قدم صغيرة تنتعل حذاءً أسود برباط مقطوع، ولكنّ هناك من أعاد رتقه فبدا معقوداً من عدّة مواضع، وتعتقد أن هذه أسهل طريقةٍ للبحث عن قدم طفلك، وربما حالفه الحظّ فعلقت القدم بالسّاق، وقد تكون محظوظاً أكثر فتعثر على نصفه السّفلي كاملاً، ويتبقّى أمامك وقتها أن تبحثَ عن الجزء العلوي، ثم تحمل الجزأين معاً، وتبحث عن قبر وأنت تشعرُ بحسن الحظ، وحين يصل تفكيرك إلى هنا تهزّ رأسك ساخراً، وتكمل عملية البحث المضنية، وأنت تتساءل بينك وبين نفسك عن حسن الحظّ وسوئه وسط هذا السواد.

تنظر حولك، فترى أشلاءً مختلفة لكبار وصغار، وتشمّ رائحة اللحم المحترق، وتسمع الصراخ الذي لا يتوقّف، وترى بقايا حمم النار المشتعلة، فتشعر أنّك في جهنّم، فتنتحي جانباً، وتكتم أنفاسَك، وتسند رأسك إلى حائطٍ ما زال يقاوم كي لا يقع، وتتساءل بينك وبين نفسك: لعلّ الطفل لم يُقتل، فربما تأخّر عن موعد رفاقه أو سبقهم في عملية البحث عن طعام، وحين يصل بك التفكير عند هذا الحدّ تُمسك هاتفك، وتتّصل بالجيران والأقارب وتسألهم عن الطفل "علي"، إن كانوا قد لمحوه، وحين تصل إليك إجاباتٌ بالنّفي، تسمع دعواتهم وأمنياتهم أن يكون الطفل المشاغب بخير، فتغلق الهاتف للمرّة الأخيرة، وتسند رأسك إلى الحائط، وتضربه به هذه المرّة بكلّ قوّة وتبكي.

حاول الأب أن يتخيّل أن الطفل لم يُقتل، ولكن ليس أمامه سببٌ واحدٌ يدفعه إلى التفاؤل، ولذلك فقد لام نفسَه ألف مرّة في دقيقةٍ، لأنه تأخّر في الاستيقاظ، وحاول أن يواسي نفسه فتذكّر أنّه منذ أن بدأت الحرب المجنونة وهو ينتقل بصغاره من مكانٍ إلى مكان، وأنّ ذلك كفيلٌ بأن يهدّ الجبال لا البشر، كذلك فإنّه يقضي يومه مثل طفله باحثاً عن طعام، ويجمع الحطب أيضاً لكي يطهو ما تيسّر، ولكي تعدّ زوجته الخبز بواسطة فرن الطابون الذي بناه بيديه وساعده في بنائه طفله "علي"، رغم أنّه انتهره كثيراً لكي لا يلوّث كفّيه الصغيرتين بالطّين، ولكنه كان مُصمّماً على مساعدته، لأنه يشعر أنه كبُر قبل الأوان.

أفاق من تخيّلاته على صوت أحدهم وهو يسأله عن فقيده، فقال له: فقدتُ طفلي البالغ ستة أعوام. ... وهنا التقط السائل كيساً صغيراً يقطر دماً وقال له: هذا الكيس به أشلاء تعادل وزن طفلٍ في السادسة، خذها وادفنها واصبرْ واحتسبْ.

التقط الكيس، وسار به من دون أن ينظر إلى الأسفل، بل كان ثابت النظر إلى الأمام، فخُيّل إليه طفله "علي" وهو يركض نحوه، وبين يديه حزمة من العشب الأخضر، ووجهُه يتهلّل فرحاً، مثلما كان يفعل كل يوم حين يعود بصيد ثمينٍ لأُمّه الحبيبة.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.