ألف باء... في الخيمة
لم أكن أتصوّر أن التاريخ يعيد نفسه بكل أمانة مع الإنسان الفلسطيني خصوصاً. ولذلك لم أتخيّل أيضا أن ما حدّثنا به والدي عن التعليم في الخيام بعد نكبة عام 1948، وكل ما وصفه لنا في الليالي الشتوية عن المعاناة والفقر البؤس من أجل أن يتعلّم حروفه الأولى، وذلك بعد أن تأخّر عن الالتحاق بالتعليم، حتى قارب بلوغ التاسعة من عمره، فلم أكن أتخيّل أن قصص مآسي الماضي في ليالي الشتاء، والتي تترك الموقد وتصحبها نحو فراشك وأنت تحدّث نفسك بأنها لن تتكرّر قد تكرّرت فعلا، فقد أصبح هذا العالم أكثر شراسةً إلى درجة أن يمنع الأطفال من الالتحاق بالمدرسة، لكي يفرحوا بالزي الجديد، وحمل الحقائب ذات الألوان الزاهية على ظهورهم، بحيث تهتزّ وهم يمشون أرتالا وفرادى، وكأنهم ملائكة صغيرة تتجه نحو النهر لتغتسل، ثم تتلو صلواتها اليومية بكل خشوع.
بدأ شهر أيلول قبل أيام قليلة، وهو الشهر الذي ارتبط ببداية العام الدراسي عادةً في قطاع غزّة، ولكنه للعام الثاني لم يبدأ ولم يتجهز الصغار وذويهم للمدارس، وافتقدت شوارع القطاع المدمّرة أرجل الأطفال الطرية الغضّة، وهي تضرب فوقها متجهة إلى الطابور الصباحي مفعمة بالأمل. وبدلا من ذلك، ما زالت أرجل الأطفال التي أصبحت حافية ومشققة ومتعبة تطير منذ ساعات الصباح الباكر نحو الطوابير المستحدثة، طلبا للماء والطعام. وفيما ينسلّ تلاميذ المدارس الافتراضيون من الخيام وبملابسهم البالية من فوق الحشيات المهترئة، والتي أصبحت فراشهم منذ ما يقارب العام، صوب الأماكن التي يُفترض أن يجدوا فيها ما يصلُح لإشعال النار وإعداد الطعام، فهناك بقايا الصناديق الكرتونية في السوق، وهناك بعض العُشب الجافّ والأغصان المتكسّرة، والتي أصبح الوصول إليها خطرا والحصول عليها يشبه المعجزة، فطول مدّة الحرب أدّى إلى تآكل كمياتها لأن تلك الحشود البشرية المتكدّسة في شريط ضيق على ساحل البشر قد أتت عليها.
تأكل قلبك الحسرة، وأنت ترى الصغار في طابور بائسٍ ينتظرون دورهم للحصول على الماء، وتراهم مع ساعات الظهر في طابورٍ مماثلٍ ينتظرون دورهم في الحصول على بعض الطعام عديم الطعم، ولكنه يصلُح لحشو البطون الفارغة وإسكات قرقرتها، فيما تعود بك الذاكرة إلى الزمن الذهبي للتعليم في قطاع غزّة، وكيف أن تلاميذ النكبة قد كبروا وخرجوا إلى الدول العربية ما بين دول الخليج والجزائر خصوصاً، وكيف ساهموا في نهوض التعليم في تلك البلاد، وكيف سجّل قطاع غزة نسبة صفر بالنسبة لمعدّل الأمية، وكيف سجّل أيضاً في السنوات الماضية أعلى مستوى في التعليم الجامعي في منطقة الشرق الأوسط، إذا ما قسَمنا عدد طلبة الجامعات على عدد سكان القطاع.
تنساب الدموع من العيون وهي ترى المدارس المفترض أن يتلقى الطفل تعليمه فيها وقد تحوّلت إلى مراكز لإيواء النازحين والبؤساء، بل تحوّل الفصل المفترض أن يتعلم فيه الطفل الغزّي حروف الهجاء الأولى إلى مقبرة مفترضة في حال أصابته بقذيفة من دبّابة تمزّق أجساد من لاذوا به، وقد يكون هؤلاء أقرب الناس لهذا الطفل الصغير الذي افتقد البيت مركز أمانه، وتحوّل إلى نازح مشرّد لا يرى أمامه إلا حلما بعيدا لسرير دافئ.
مؤسفُ ما نراه اليوم من ضياع للعام الدراسي الثاني لهؤلاء الصغار، الذين فتحوا عيونهم على كابوس، وفقد كثيرون منهم أيديهم أو أرجلهم أو كليهما، والتي من المفترض أن يقفوا عليها في الطابور، ويمدّوها ليلعبوا تمارين الصباح، ويمسكوا بعضهم بعضا، ويتّجهوا نحو صفوفهم كما يفعل كل الأطفال الأبرياء في كل أنحاء الأرض.
يعيش الطفل الغزّي البائس أصعب الأيام، لأنه فقد طفولته وبيته وأحلامه وحقّه في التعليم، بل تحوّل أكثر قاطني الخيام ممن هم في سن دخول المدرسة إلى مرضى ومعاقين ومصابين لا يسمع أنينهم أحد، وقد كانوا بسطاء، أقصى أمانيهم أن يسمعوا صوت رنين جرس المدرسة الذي يُخبرهم أنهم ما زالوا أولئك التلاميذ الصغار الذين علّموا العالم يوماً كيف تغدو الحجارة في أيديهم ماساً ثميناً...