انسوا "فكرة" لبنان

07 فبراير 2015
+ الخط -
تفتحون كتب التاريخ "المتعددة" في لبنان، وتشاهدون مسلسلات وأفلاماً عن صداقة طوني لمحمد، وتفاهم ريتا مع فاطمة، فتظنّون أن البلاد نموذج لمدينة أفلاطون الفاضلة. تسمعون حكايات عن تلاحم العائلات المسيحية والاسلامية في بوتقة واحدة، وحماية بعضها البعض في أثناء الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، فتجزمون أن منارة الشرق لا بدّ وأن تسطع من لبنان.
جميل هذا الكلام، والأجمل أن لدى هذه الأرض التي لا تتعدّى مساحتها الـ 10452 كيلومتراً مربّعاً، دائماً، ما يشغلها. تعيش في دينامية متحرّكة. ليست كدينامية عصور النهضة الأوروبية. قطعاً لا. بل دينامية تتعلّق بتحويل جريمة قتل فردية إلى مشكلة مناطقية وطائفية وسياسية. دينامية تضع مرجعية، طالما تفاخرت بأنها "بَنَت لبنان وعلت مجده"، في أزقة الملفات بين ردم الحوض الرابع في مرفأ بيروت، وقضية موظفي كازينو لبنان. دينامية جعلت من المواطن مجرّد رقم. إن توجّهت إليه لا يسمع، وإن سمع لا يفهم، وإن فهم لا يريد الاقتناع.
لا يُمكن أن تنتظر شيئاً من لبنان بعد اليوم، خصوصاً أن الوطن الذي أعلن وزير صحته، أن "معظم غذائه يحوي جزئيات من فضلات بشرية" ولا ينتفض، هو وطن ميت يسير على قدمين. لم يجمع "التعايش" الطوائفي في هذا المجال، الشعب، في أقدس مقدساته. لا يهمّ. ما يهمّ هو إطلالة هيفا وهبي، أو ضحكة مايا دياب، أو توقعات ليلى عبد اللطيف. في هذه الظروف، لم تعد الأسئلة العامة، من سلاح حزب الله والمحكمة الدولية وحقوق المسيحيين ورئاسة الجمهورية وعودة الرئيس سعد الحريري وإقرار قانون انتخابي جديد... سوى تفصيل سياسي، يُعالج بحلّ سياسي بمعزل عن الشعب، ومن دون العودة إليه. هكذا اعتاد لبنان.
لم يعد هذا البلد قادراً على أن يكون "فكرة" نموذجية، أو مثالية، لتعميمها على دول الشرق الأوسط. أساساً لم يكن كذلك. كان الأمر مجرّد "جائزة ترضية"، بغية إقناعنا بدورٍ أُعطي لنا، ساهم مسرح الرحابنة في تأجيجه. لم نعرف كيفية تأدية الدور، وحتى حين حاولنا فعل شيء، ترجمنا فعلتنا بحروب دامية وخلافات سياسية وحقدٍ مجتمعي. لم يكفِ هذا كله. بل إننا، كدولة مفككة وضعيفة، لم نستطع معالجة انعكاسات أي أزمة في الجوار. لا بل تداخلت أزمات الجوار فينا، حتى أصبحت قضيتنا أحياناً، وكأنها أمام حائط مسدود، ومن دون حلول.
لم يكن زعماؤنا يوماً، رجالاً مخلصين لوطنهم. بل كانوا رجال دين وإقطاعيين وأمراء حرب بمعظمهم. سعوا إلى إرضاء خارج يموّلهم، لغياب المواد الأولية اللبنانية التي تكاد تقتصر على القطاع الخدماتي فقط. اسألوا عنهم جنود الجيش اللبناني المأسورين بعد معارك عرسال في أغسطس/آب الماضي. اسألوا أهل الضحايا الذين توفّوا على أبواب المستشفيات، لنقصٍ في السيولة. اسألوا التلاميذ المطرودين من مدارسهم، لعدم قدرة أهلهم على دفع الأقساط. هؤلاء التلاميذ باتوا مهيئين ليصبحوا مشاريع "مجرمين". يُسجل للزعماء "نجاحهم" في حلحلة ملف كازينو لبنان، فهو أهم من كل تلك القضايا مجتمعة. وبناءً على هذا كله، هل سننتقدهم؟ احزروا ماذا؟ سنصفق كالجاهلين حين يضحك زعيمان التقيا بعد خصام في صورة واحدة.
لسنا هذا الوطن الذي يتغنّى بستة آلاف سنة حضارة. انسوا، لا نفع لأي حضارة في غياب العقل. تاريخ الولايات المتحدة لم يتخطّ الـ 500 عام، لكن واشنطن قادرة على التأثير على قراراتنا "السيادية" عبر موظف في الكونغرس. فقط لو تقبل واشنطن المقايضة.
انسوا "تسامح" لبنان الطائفي و"عيشه المشترك" الهزيل، وتذكّروا أن أحدهم أُقيل من منصبه مديراً لكلية إدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية، لأن طائفته ليست من طائفة معظم طلاب الكلية. وأهم ما يُمكن تذكره أن شعباً لا يثور بسبب فساد غذائه، لا تنتظروا منه أي ثورة من أي نوعٍ، بل الخضوع فقط.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".