02 نوفمبر 2024
انتهاك الإنسان في ميانمار
أدمتهم الدّروب وأنهكتهم النّوائب، وتقطّعت بهم السبل، وسكنهم الخوف، وكدّهم البحث عن الأمان. إن هم تقدّموا وجدوا جبال البنغال العالية، والغابات الكثيفة، والأنهار الهادرة ورشاشات حرس الحدود البنغالي أمامهم. وإن هم تراجعوا أدركتهم نيران جيش ميانمار الرّهيبة، ودهستهم آلته العسكرية الدّاهمة.. كذلك وجد مسلمو الروهينغيا أنفسهم مخيّرين بين أمرين أحلاهما مرّ، فإمّا الإقبال على المجهول بالتوجّه قِبلة حدود بنغلاديش، وتجشّم الصّعاب لبلوغ مخيّمات اللاجئين أو الاستسلام إلى موتٍ محقَّق، بسبب موجة التطهير العرقي التي تمارسها ضدّهم الأغلبية البوذية وجيش البلاد. وأنت تتابع صورهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر مشاهد التوثيق لمأساتهم عبر شاشات التلفزيون، ترى وجوههم باهتة، وأنظارهم شاردةً، وأجسادهم مكدودة، وقلوبهم كسيرة، وعيونهم مترعةً بالدموع والألم، أتعبهم الترحال الطويل عبر المسالك الوعرة، وأضناهم الهروب من جرائم الإبادة التي شنّها عليهم النظام الحاكم. فمنهم مَن أدرك الملاجئ بعد مشقّة، ومنهم مَن هلك في الطريق إليها، ومنهم مَن اعتقلته السلطات البنغالية، ومنهم مَن ظلّ عالقا على الحدود، ولكل واحد منهم قصّة عذابٍ تهتزّ لها القلوب وتقشعرّ لها الأبدان، فهذا أحرقت المليشيات منزله أمامه، وذاك ذبحوا ذويه أمام ناظريه، وسواه اختطفوا أبناءه، وغيره سرقوا أمواله وهتكوا عرض بناته، وآخرون نكّل بهم الجيش وأحرق مزارعهم، وهدّم مساجدهم وأتلف محاصيلهم، ومنعهم من دفن موتاهم...
هم مدنيون، ولم يكن في حوزتهم سلاح، فقط كانوا مثقلين بأمتعتهم وأطفالهم وهمومهم
وأحلامهم الموؤودة. تركوا خلفهم إقليم أراكان الذي سكنوه وعمّروه وأجدادهم منذ قرون خلت، فحوّلته المليشيات البوذية، الطائفية، المتعصّبة، إلى كوم ركام ورماد. فلم يكف المتطرّفين البوذيين وعسكر ميانمار أن يعاملوا مسلمي الروهينغيا بطرائق عنصرية مهينة، بل تجاوزوا ذلك إلى التضييق عليهم، وقطع أرزاقهم، وجدّوا في تشريدهم وتقتيلهم، وتشتيت أسرهم، ودفعهم إلى الهجرة القسرية نحو البلدان المجاورة، وهو ما أفادت به تقارير متواترةٌ صادرة عن منظّمات حقوقية موثوقة. وتفيد إحصائيّات صادرة عن الأمم المتّحدة بأنّ حوالي مائة ألف من مسلمي الروهينغيا فرّوا، خلال الأيّام العشرة الأخيرة، من جحيم الحرب التي تشنّها الطائفة البوذية والجيش على إقليم أراكان، وعبروا الحدود إلى بنغلاديش، وهم الآن بلا مسكن، ولا مورد رزق قارّ، ولا تصل إليهم المساعدات الغذائية بانتظام، وتتهدّدهم مخاطر المجاعة وانتشار الأوبئة.
والظاهر أنّ الأغلبية البوذية، إذ تفعل ما تفعل، وإذ تقتل مَن تقتل من المسلمين الروهينغيا، تظنّ أنّها تتعبّد بما تفعل وبمَن تقتل، وتحسب أنّها بذلك تحمي وحدتها الطائفية من خطر الأقلّية المسلمة التي لا يتجاوز عددها حدود المليون ومائتي ألف نسمة، ولا تمثّل سوى 5% من مجموع السكّان. وقد تعزّز هذا التوجّه العنصري/ المتطرّف في ميانمار مع ظهور حركة 969 القومية البوذية سنة 1999 التي تأسّست على مبدأ التخويف من الإسلام، والدعوة إلى مقاطعة المسلمين، وعزلهم ونبذهم من النسيج المجتمعي. وينعت الإعلام الغربي الراهب البوذي، أشين ويراثو، وهو الزعيم الروحي للحركة بـ"النّازي الجديد"، ويُعرف أيضا بـ"هتلر ميانمار" لدعوته الصريحة إلى تجويع المسلمين وإخراجهم من ديارهم، وتحريضه على قتلهم، ولمنعه الزواج المختلط بين البوذيين والمسلمين. ولا يتورّع، في اجتماعاتٍ تحريضيةٍ منشورة له على "يوتيوب"، عن تشبيه المسلمين بـ"المتسكعين"، والقول إنّهم في نظره "أقلّ قيمة من الكلاب"، ويصفهم بأنهم "آكلو لحم البشر"، وأنهم مثل "سمك الكارب الأفريقي يتناسلون بسرعة". ويقول إنهم "وباء يهدّد البلاد". وأدّى ذلك عمليّا إلى تزايد وتيرة الاحتقان الطائفي، وإعلان 21 قرية في ميانمار أنّها تمنع دخول المسلمين إليها. ويمارس الرجل نشاطه الدعوي العنصري، وينشر خطاب الكراهية، في ظلّ صمت حكومة ميانمار التي وظّفت الجيش والمليشيات لتصفية مسلمي الروهينغيا، وعلّلت ذلك بأنّهم أقلّية انفصالية، وأنّهم مهاجرون من أصول بنغالية. فأجازت فيهم المعاملة الوحشية والانتهاكات الواسعة، وتناست أنّهم سكنوا إقليم أراكان من زمن بعيد، وأنّ القوانين الدولية تحظر انتهاك حقوق الإنسان على جهة الإطلاق، بقطع النظر عن دينه وعرقه، وأصله ولونه ولغته.. وبلغ الصلف بالحكومة المذكورة درجة
منع البعثات الأممية، والمنظمات الحقوقية الدولية، من دخول الإقليم المنكوب، ومعاينة حجم الدّمار الذي ألحقه الجيش والمتطرّفون البوذيون وغلاة القوميين بالنبات والحجر والبشر في المنطقة، وذلك للتغطية على الجريمة، وربح الوقت لمحو آثارها، وتأمين إفلات مرتكبيها من العقاب. ومن المفارقات أنّ زعيمة الرابطة الوطنية للديمقراطية في ميانمار وقائدة المعارضة البورمية سابقا، ومستشارة الدولة برتبة رئيسة وزراء حاليا، أون سان سوتشي، والحائزة على جائزة نوبل للسلام سنة 1991، سبق أن رفضت، في لقاء مع مذيعة "بي بي سي" ميشيل حسين (24/10/2013) إدانة العنف ضد الروهينغيا، منكرةً تعرض مسلمي ميانمار لأي تطهير عرقي. ولم تنبس ببنت شفة إزاء الأعمال الوحشية المرتكبة حاليا إزاء الأقلّية المسلمة في أراكان، لرغبتها في مهادنة العسكر واسترضاء رهبان البوذية، وقصد تحقيق مكاسب سياسية ضيّقة، وهو ما أثار استياء المجتمع الحقوقي، ودفع كثيرين إلى الدعوة لسحب جائزة نوبل منها.
يعتبر مسلمو الروهينغيا من أكثر الأقلّيات اضطهادا في العالم، وعانوا عقودا الويلات لـ"محافظتهم على عاداتهم وتقاليدهم وعقيدتهم الإسلامية"، بحسب شهادة البابا فرنسيس (فبراير/ شباط 2017)، بابا الكنيسة الكاثوليكية وسيّد الفاتيكان. وما يُرتكب في شأنهم من تعذيب وتشريد وتقتيل يندرج تحت طائلة التطهير العرقي، ويُعدّ جريمةً ضدّ الإنسانية. وأحرى بالمجتمع الدولي عموما، والقوى العظمى ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) والدول العربية والإسلامية الضغط على حكومة ميانمار، لتضع حدّا لنزيف الأبرياء، ولتسمح للمنظمات الحقوقية والهيئات الإغاثية بالدخول إلى إقليم أراكان لمعاينة الأضرار، وتقديم المساعدة الغذائية والنفسية للمنكوبين، وتأهيلهم للعودة إلى قراهم المهجورة. مع العمل على تعقّب المسؤولين عن الانتهاكات الفظيعة، وتقديمهم للمحاكمة، حتّى يستعيد العالم شيئا من أخلاقيته، وحتّى تكون للوائح الحقوقية الصّادرة عن الأمم المتحدة مصداقية وفاعلية، وحتّى لا تستعيد ماينمار مشهد الحرب الطائفية الدامية في رواندا والبوسنة والهرسك.
هم مدنيون، ولم يكن في حوزتهم سلاح، فقط كانوا مثقلين بأمتعتهم وأطفالهم وهمومهم
والظاهر أنّ الأغلبية البوذية، إذ تفعل ما تفعل، وإذ تقتل مَن تقتل من المسلمين الروهينغيا، تظنّ أنّها تتعبّد بما تفعل وبمَن تقتل، وتحسب أنّها بذلك تحمي وحدتها الطائفية من خطر الأقلّية المسلمة التي لا يتجاوز عددها حدود المليون ومائتي ألف نسمة، ولا تمثّل سوى 5% من مجموع السكّان. وقد تعزّز هذا التوجّه العنصري/ المتطرّف في ميانمار مع ظهور حركة 969 القومية البوذية سنة 1999 التي تأسّست على مبدأ التخويف من الإسلام، والدعوة إلى مقاطعة المسلمين، وعزلهم ونبذهم من النسيج المجتمعي. وينعت الإعلام الغربي الراهب البوذي، أشين ويراثو، وهو الزعيم الروحي للحركة بـ"النّازي الجديد"، ويُعرف أيضا بـ"هتلر ميانمار" لدعوته الصريحة إلى تجويع المسلمين وإخراجهم من ديارهم، وتحريضه على قتلهم، ولمنعه الزواج المختلط بين البوذيين والمسلمين. ولا يتورّع، في اجتماعاتٍ تحريضيةٍ منشورة له على "يوتيوب"، عن تشبيه المسلمين بـ"المتسكعين"، والقول إنّهم في نظره "أقلّ قيمة من الكلاب"، ويصفهم بأنهم "آكلو لحم البشر"، وأنهم مثل "سمك الكارب الأفريقي يتناسلون بسرعة". ويقول إنهم "وباء يهدّد البلاد". وأدّى ذلك عمليّا إلى تزايد وتيرة الاحتقان الطائفي، وإعلان 21 قرية في ميانمار أنّها تمنع دخول المسلمين إليها. ويمارس الرجل نشاطه الدعوي العنصري، وينشر خطاب الكراهية، في ظلّ صمت حكومة ميانمار التي وظّفت الجيش والمليشيات لتصفية مسلمي الروهينغيا، وعلّلت ذلك بأنّهم أقلّية انفصالية، وأنّهم مهاجرون من أصول بنغالية. فأجازت فيهم المعاملة الوحشية والانتهاكات الواسعة، وتناست أنّهم سكنوا إقليم أراكان من زمن بعيد، وأنّ القوانين الدولية تحظر انتهاك حقوق الإنسان على جهة الإطلاق، بقطع النظر عن دينه وعرقه، وأصله ولونه ولغته.. وبلغ الصلف بالحكومة المذكورة درجة
يعتبر مسلمو الروهينغيا من أكثر الأقلّيات اضطهادا في العالم، وعانوا عقودا الويلات لـ"محافظتهم على عاداتهم وتقاليدهم وعقيدتهم الإسلامية"، بحسب شهادة البابا فرنسيس (فبراير/ شباط 2017)، بابا الكنيسة الكاثوليكية وسيّد الفاتيكان. وما يُرتكب في شأنهم من تعذيب وتشريد وتقتيل يندرج تحت طائلة التطهير العرقي، ويُعدّ جريمةً ضدّ الإنسانية. وأحرى بالمجتمع الدولي عموما، والقوى العظمى ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) والدول العربية والإسلامية الضغط على حكومة ميانمار، لتضع حدّا لنزيف الأبرياء، ولتسمح للمنظمات الحقوقية والهيئات الإغاثية بالدخول إلى إقليم أراكان لمعاينة الأضرار، وتقديم المساعدة الغذائية والنفسية للمنكوبين، وتأهيلهم للعودة إلى قراهم المهجورة. مع العمل على تعقّب المسؤولين عن الانتهاكات الفظيعة، وتقديمهم للمحاكمة، حتّى يستعيد العالم شيئا من أخلاقيته، وحتّى تكون للوائح الحقوقية الصّادرة عن الأمم المتحدة مصداقية وفاعلية، وحتّى لا تستعيد ماينمار مشهد الحرب الطائفية الدامية في رواندا والبوسنة والهرسك.