امرأة المعهد الملكيّ

21 ابريل 2015
+ الخط -
حين توقّف القطار في محطّته الأولى، لم ينزل منه أحد، لكن صعدتْ إليه امرأة مسنّة، أنيقة، حيّتني بلطف، وجلستْ ليس بعيداً منّي. شعرتُ بحضورها الأليف، كأنّي أعرفها من قبل، وأكنّ لها المودّة. وحين غصتُ وراء هذا الشعور في حنايا ذاتي، أدركتُ السبب. هي تشبه إلى حدّ بعيد امرأة عرفتها، كأنها صورة لما ستكونه بعد نحو ستين عاماً. سُرِرتُ لأن تلك المرأة، لن تفقد شكلَ محياها وجسدها حين تُصبح في سنّ سيّدة القطار، وستبقى لها في ذلك العمر، هويّتها المرئيّة وملامح رونقها. انتصارٌ بشريّ على الزمن، كم يروق لي إدراكه.
ليس هذا السفر إلى سولاك، إلا رحلة أخرى من رحلات البحث عن كاترينا. قبل غياب سلمى، لم أذكر لها شيئاً عن كاترينا، غير هجرها المفاجئ، الذي آلمني إلى حدّ لا يوصَف، قائلاً إنّي تغلبتُ على ذلك الوله، وقد بات طيّ النسيان. لكن نسياني كاترينا لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة.
بانتْ وراء نافذة القطار بحيرة صغيرة، تحوطها أشجار الصفصاف، توالت بعدها حقول دوّار الشمس، ثم قرية وادعة فوق تلّة كثيرة الاخضرار.على الرغم من قلقي، شعرتُ بسكينةِ من لم يسمع منذ ساعات صوتاً يخاطبه، باستثناء تحيّة امرأة القطار الخافتة. لا شكّ في أنّي أفضّل، إلى حدّ بعيد، التواصل بالكتابة على الكلام، وهو شأني على الدوام. أفضّل، كلّ التفضيل، قراءة النّص على سماع الصوت. لذلك، ارتحتُ عميقاً إلى وسيلة الرسائل النصيّة التي ظهرتْ. الصوت يحملُ، في ما يحمله، ذات الإنسان الجسديّة، بما يعتريها من ثُغَر، وما يشوبها من هَنات. أمّا النّص فمُحرَّرٌ منها.
أقرأ في مفكّرتي ما يأتي : "كان مُقدّراً لي الانجذاب إلى كاترينا موران في اليوم الأوّل لدخولي "المعهد الملكي". كانتْ آنذاك في الحادية والعشرين، وكنتُ أنا في الثلاثين من العمر. كنا نحضّر دروساً مختلفة، هي تتابع دراستها في تاريخ الفن، وأنا أنهي تخصّصي في ثقافة القرون الوسطى في الغرب. لذلك لم أكن ألمحها في صفٍّ من الصفوف، بل في أروقة المعهد، أو مقهاه، أو مكتبته الكبرى.
كنتُ، في ذلك الخريف والشتاء الشديدي البرودة، ما أن ألج كلّ صباح بوابة "المعهد الملكي"، حتى أجد نفسي في عالم ساحر، داخل ذلك الصرح الحصين، الهادئ، المستقر، المقيم في زمن آخر، المسكون بروحه، وبخيالات الذين قصدوه على مرّ العصور، ولم يغادروه حقاً. كانت تصل إليَّ وأنا فيه، إيحاءات عميقة، نائية، ولا تعود تبارحني. أمرٌٌ يصعبُ وصفه. هكذا، باتَ ذلك المكان مقيماً، نهائيّاً، في داخلي، في حضوره، كما في غيابه، بجدرانه الحجرية السميكة، الداكنة، وصالاته المزيّنة برسوم جدارية من أزمنة النهضة وما بعدها، وبأثاثه الذي من خشب الجوز، المستمدّ مسحتَه ممّا يشبه رهبة الأعماق، ونوافذه الكبيرة، العالية، المقطّعة مربّعات بلوّرية، ينساب منها النور روحانيّاً، مُصفّى، ومصابيحه البرونزية، المتلألئة بأسرار الكريستال، وخزائن كتبه، وروائحه، وأدراجه، وأروقته، وعابريه الكثر، الذين يغلب على معاطفهم الأسود والرماديّ، بصمتهم، وخفرهم، ووقع خطاهم الخافت، الأشبه بخطى الأطياف.
أوّل ما رأيت كاترينا، كانت تعبر بين العابرين في تلك الأروقة. كانت متوسطة القامة، هيفاء القدّ، رشيقة الحركة، تظهر ثم تختفي، بوجهها البهيّ، وشعرها الأشقر الأملس، وبشرتها النقيّة البياض، وعينيها الزرقاوين الواسعتين، الشديدتي التعبير، المسكونتين ببريق من المشاعر، لم أجده قبْلُ في عينين، تصحبه ابتسامة حيّة، على شفتين ورديتين، رقيقتين. قلتُ في نفسي: "هذه هي". وعرفتُ منها، بعد ذلك بشهور، أنها قالت هي أيضاً لنفسها: "هذا هو".
مرّ الكثير من الوقت، قبل أن أتبادل الكلام مع كاترينا، على الرغم من تعلّقي الشديد بها، وحضورها الدائم في ذاتي، طوال النهار، منذ لحظة اليقظة الأولى، وتوقي، الذي لا يهدأ، إلى رؤيتها، ولو من بعيد، وقلقي البالغ إن غابتْ يوماً واحداً عن ناظري. هذا شأني على الدوام في عدم الكلام، إذ أترك الأمور تأخذ ما أسمّيه "مجراها الطبيعي"، ولعلّي أخفي، وراء ذلك، ما يكتنف طبعي من إحراج وخجل. هكذا، بقينا أسابيع طوالاً، ينظر أحدنا إلى الآخر حين نلتقي من طريق المصادفة، قبل أن ننتقل إلى ابتسامات كثيرة الخفر.
وذات مساء، وجدتها في المكتبة، التي هي آية فنيّة فريدة في ذاتها، فيها ما فيها من سحر المتاحف الملكية والكاتدرائيات القوطية. كان ثمّة مكان فارغ، قبالتها، جلستُ فيه. تبادلنا التحيّة والابتسام. علا وجهها الاحمرار. ثم بعد حين، رفعتُ نظري وسألتها ماذا تدرس.
لم يكن ما جذبني إلى كاترينا هو نفسه حقاً ما جذبَها إليّ. من جهتي، كانتْ تنتمي كاترينا إلى صنف من النساء أعرف الواحدة منه فوراً، في أيّ مكان، إن رأيتها بين مئات الأشخاص. كانت تنطبق تماماً على تلك الصورة التي أحملها في أعماقي، منذ البدء. لكن، تُرى أيّ بدء؟ لا بدّ أن صورة المرأة المنشودة، تكوّنتْ في طفولتي الأولى، من خلال الوجوه والأشخاص والرسوم المحيطة بي، عبر مشاهدات الحياة والطقوس الدينية والكتب. لكن أشعر أيضاً أن هذه الصورة هي أعمق رسوخاً بكثير، في ذاتي. كأنّها مقيمة فيَّ منذ ما قبل ولادتي. وكأنّها آتية إليَّ من أزمنة وحيوات أخرى، تتخطّى ذاكرتي ووعيي. وكأنّي أحملها، بين ما أحمله من أسرار، في خلايا جسدي وثنايا روحي. ولعلّ لقائي كاترينا في ذلك المكان المؤثّر الذي هو "المعهد الملكي"، قد أولى شخصها أبعاداً جمالية، وشعورية، وروحية، إضافية، بحيث باتا، هو وهي، متّحدين في ذاتي. أضحتْ هي امرأة "المعهد الملكي".
أمّا، من جهتها، فلم يكن ليخطر في بالي قطّ، ولا في أقصى تخيّلاتي، السبب الذي جذب كاترينا إليَّ. وهي لم تبح لي به إلا بعد أن توطّدت علاقتنا، حين تركتْ شقتها قبل عام، لتقيم معي في حي لوتيسيا. ذات يوم أحد عاصف، لم نغادر خلاله البيت، نظرتْ إليَّ طويلاً في وقتٍ متأخّر من الليل، ثم قالت : "أودّ مصارحتك بأمر لم أذكره لكَ ولا مرّة من قبل". حبستُ أنفاسي، وخشيتُ ما ستقوله. سألتْني: "هل تعلم لماذا لفتَّ انتباهي، منذ البداية، بهذا الوضوح وهذه القوّة ؟". أجبتها وقد فاجأني السؤال: "كلا، لا أعلم". تردّدتْ كاترينا في الاستمرار في تلك المحادثة، ورغبتْ في الخروج منها إلى أمورٍ أخرى. لكنّي طلبتُ منها بإصرار إكمال ما تقوله. باحت لي بأنّها كانت ستأخذ هي المبادرة إلى مخاطبتي والتعرّف إليّ، لو لم أفعل. ثم قالت، أيضاً، إنّها، في البداية، رأتني قبل ان أراها، وقد أصابها ذلك بقدرٍ من الذهول، كادتْ أن تتلاشى معه قواها، لو لم تتمالك نفسها وتبتعد. أخذ منّي العجبُ مأخذه، وسألتها : "لماذا يا كاترينا؟ لماذا يا حبيبتي؟". نظرتْ إليّ وقد اغرورقتْ عيناها بالدموع، قائلةً: "لأنّكَ، يا للأمر الذي لا يُصَدَّق، تشبهُ تمام الشبه عمّي الوحيد، الذي قُتِلَ، في الثلاثين من عمره، في مثل سنّك، خلال الحرب الكبرى الثانية، في جبال الأردين". ثم اتجهتْ إلى خزانتها، وعادت بصورة بالأسود والأبيض، قائلةً: "انظر". نظرتُ، ودخلتُ في حال غريبة، تشبه أحلام اليقظة، غير واثقٍ ممّا رأته عيناي. كان هذا الضابط الشاب، المرتدي بذلته العسكرية، أواخر ثلاثينيّات القرن الماضي، يشبهني إلى حدٍّ لا يُعقَل".
المساهمون