اليوبيل الماسي لمهرجان فينيسيا: العودة إلى الماضي

22 اغسطس 2018
راين غوزلينغ: افتتاح دورة اليوبيل الماسي (فيسبوك)
+ الخط -
يحتفل "مهرجان فينيسيا (البندقية) السينمائي الدولي (لا موسترا)"، الأعرق في العالم، بيوبيله الماسي في دورة هذا العام، المُقامة بين 29 أغسطس/ آب و8 سبتمبر/ أيلول 2018. 75 دورة للمهرجان الذي تأسَّس عام 1936، وتوقف أكثر من مرة، إما لاندلاع الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وإما لأسباب سياسية ومالية. 

لم يُعلن المهرجان عن أي احتفالات أو فعاليات خاصة مُتعلقة بهذا الحدث الاستثنائي. قبل أيام قليلة، اكتفى بالكشف عن برنامج ثري ومتنوّع في أقسامه وبرامجه المختلفة. فالمسابقة الرسمية تَعِدُ بدورة ربما تكون من أقوى دوراته، إذْ تُبرِز تفوّقه على غيره من المهرجانات الكبيرة المُنافِسة، كـ"برليناله" (برلين) و"كانّ" تحديدًا، بحصوله على أبرز أفلام العام التي حقّقها أهمّ المخرجين. يكفي إلقاء نظرة سريعة على أسماء هؤلاء وعناوين أعمالهم المُعلن عن اختياره للتأكّد من هذا، نظريًا على الأقلّ. أما النقد، فسيكون مع انتهاء عروض تلك الأفلام المختارة، والمُشاهدة ستكشف أحجام المستويات المُتَوَقّعة ومدى "سخونة" المنافسات في المسابقات والأقسام والبرامج المختلفة.

النجاح المذكور في ضمّ تلك الأسماء إلى المسابقة الرئيسية وغيرها من الأقسام والبرامج يُعزى لأسبابٍ عديدة، يرجع بعضها إلى إدارة المهرجان. فمديره ألبرتو باربيرا، القادم من النقد السينمائي، صاحب رؤية فنية مُتميّزة. صَمَد كثيرًا في مواجهة الهجوم الذي تعرّض له من النقّاد بسبب تغييره الهوية الأوروبية الطليعية والفنية للمهرجان، والميل بها أكثر إلى السينما الأميركية وإنتاجاتها بشكلٍ طاغ. مع ذلك، أثبتت الأيام أن نظرة باربيرا ثاقبة إلى حدّ بعيد، إذْ باتت الإنتاجات الأميركية تنتظر، بل تُفَضِّل المهرجان الإيطالي على غيره، وبات المنتجون والمخرجون يتفاءلون بعرض آخر إبداعاتهم فيه، لعل أعمالهم تلك تفوز بـ"أوسكار" أو "غولدن غلوب" أو غيرهما من الجوائز، استنادًا إلى "حالات" سابقة، مع فوز أفلام مختلفة معروضة في "لا موسترا" بجوائز كهذه في الأعوام الماضية.



إلى ذلك، انفتح المهرجان مُؤخرًا ـ على عكس "كانّ" ـ على كافة شركات الإنتاج، وتحديدًا "نيتفلكس" و"أمازون". هذا لا يعني أن المهرجان يضع السينما الأميركية "نصب عينيه"، أو أنه بات يُجافي السينمات الفنية والتجريبية وغيرها؛ فالسينما الأوروبية حاضرة دائمًا في مُسابقاته الرئيسية، إلى جانب السينما الآسيوية، المتواجدة سنويًا بفاعلية كبيرة في مُسابقاته كلّها، والحاصدة جوائز فيه، بعضها أساسي، في الأعوام الماضية. هناك أيضًا سينما أميركا اللاتينية والشرق الأوسط، ومنها بعض الدول العربية، التي لها نصيب مُتفاوت الحجم في المشاركة السنوية.

يُشير استعراضٌ سريع للأفلام الـ21 المختارة للمسابقة الرسمية إلى ملامح لافتة للانتباه. أوّلها مُشاركة وافدين جدد، إلى جانب مخرجين كبار شاركوا و/أو فازوا سابقًا بجائزة "الأسد الذهبي". وافدون جدد، معظمهم شباب، برزوا في المشهد الدولي بفضل أفلام أولى لهم معروضة في مهرجانات دولية مختلفة. ملمحٌ آخر يظهر: أفلامٌ كثيرة مُعلَن عن مشاركتها تمتلك بُعدًا تاريخيًا أو غير مُعاصر، لتناولها أحداثًا تاريخية، حديثة نسبيًا أو مُوغلة في القِدم، بصرف النظر عمّا إذا كانت هذه الأحداث مبنية على وقائع تاريخية أو حكايات خيالية.
داميان شازيل، الذي يفتتح المهرجان للمرة الثانية بعد عامين على افتتاحه إياه بـ"لا لا لاند"، يتناول ـ في جديده "الرجل الأول" ـ جانبًا من حياة نيل أرمسترونغ، أول رائد فضاء أميركي يهبط على سطح القمر، وكان ذلك عام 1969. "أنشودة باستر سكراغز" للأخوين جويل وإيثان كُوِن، العائدين فيه إلى أفلام "وسترن"، مع شخصية المطلوب والخارج على القانون باستر سكراغز. الفنان التشكيلي والمُخرج الأميركي جوليان شنايبل يُقدّم، في "عند بوابة الأبدية"، لمحة من حياة الرسام فان غوغ، خاصة تلك المتعلّقة بالفترة التي أمضاها في مدينة "آرل" (عنوان الفيلم هو اسم لوحة شهيرة للفنان الهولندي).

البريطاني مايك لي يعود مجدّدًا للتنافس على جائزة "الأسد الذهبي"، بجديده "بترلو": قصة تاريخية أيضًا، وقعت أحداثها الثورية في "مانشستر" عام 1819؛ ومواطنه البريطاني بول غرينغراس يعود بدوره، في "22 يوليو"، إلى عام 2011، لاستعادة حدثٍ دامٍ، يتمثّل بمقتل 77 طالبًا وطالبة على يديّ يميني متطرّف، في حادثة هزّت النرويج والعالم. بعد فوز "جبال الألب" بجائزة أفضل سيناريو في الدورة الـ68 (31 أغسطس/ آب ـ 10 سبتمبر/ أيلول 2011) لمهرجان فينيسيا نفسه، يعود اليوناني يورغوس لانتيموس إلى المسابقة الرسمية بفيلم تاريخي (أيضًا) بعنوان "المُفَضَّلة"، تدور أحداثه في القرن الـ18، وهذا غريبٌ وغير مألوف نهائيًا بالنسبة إلى مخرج "سرطان البحر" (2015) و"قتل غزال مقدّس" (2017)، الذي لم يتطرّق سابقًا إلى الحكايات التاريخية.

أما المجريّ لازلو نَمَش، فيأتي إلى جزيرة "الليدو" (حيث تُقام أيام المهرجان) للمرة الأولى، حاملاً معه فيلمًا تاريخيًا أيضًا بعنوان "الغروب"، تدور أحداثه في بودابست أوائل القرن الماضي.



إلى ذلك، يروي "عمل بلا مؤلف" (188 د.) للألماني فلوريان هِنكِل فون دونسماك حكاية هروب أحد الفنانين الشباب من الجانب الشرقي لألمانيا إلى جانبها الغربي أثناء النازية. المكسيكي ألفونسو كوارون، الحريص على المُشاركة الدائمة في المهرجان، يُقدِّم "روما"، العائد إلى المكسيك في سبعينيات القرن الماضي، راصدًا مشاكل تُعانيها إحدى العائلات. من ناحية أخرى، وعن نصّ روائي ينتمي إلى أفلام "وسترن" (لكن بشكل كوميدي مُضاف إلى المطاردات) تدور أحداثه في خمسينيات القرن الـ19، يُشارك الفرنسي جاك أوديار بـ"أخوة الشقيقات"، وهو أول فيلم له ناطق باللغة الإنكليزية.

"العندليب" للأسترالية جينيفر كَنْت هو الفيلم الوحيد لمخرجة في المسابقة الرسمية: دراما نفسية من بطولة امرأة، تدور أحداثها في القرن الـ19؛ بينما تدور أحداث "كابري ـ ثورة" للإيطالي ماريو مارتوني في مدينة "كابري" قبل دخول إيطاليا الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا عام 1914: يدعو فنانون شباب إلى القيام بثورة، إذْ كانت "كابري" ملاذًا للمُعارضين والمتمرّدين من أنحاء العالم، كالكاتب الروسي مكسيم غوركي.

هذه أمثلة توضح ميل الدورة الـ75 لـ"لا موسترا" إلى النوع السينمائي التاريخي، وإلى سطوة الماضي وهيمنته على مواضيع الأفلام المختارة. ما يؤدّي إلى طرح سؤال: ما هو السحر الكامن في استدعاء الماضي أو التاريخ وأحداثهما ووقائعهما ومُلابساتهما، على المستوى الفردي أو بشكل عام؟ ما هي الدلالات؟ هل هناك انعكاس على الحاضر؟ لاحقًا، ستظهر الإجابات، وسينجلي "سرّ" لجوء غالبية المخرجين إلى الماضي ـ التاريخ.
دلالات
المساهمون