الوثائقي "أغنيات القمع": سرد بصري عن الاستبداد

06 يوليو 2020
+ الخط -

يؤجّل مُخرجا ومُصوّرا "أغنيات القمع" (2020)، الألماني التشيلي المولد استيفان فاغنر، والدنماركية ماريانه هوغن ـ موراغا، الخوض في التفاصيل التاريخية الخاصة بدور زعيم "مستعمرة الكرامة"، النازي السابق باول شيفر، في انقلاب الجنرال التشيلي أغوستو بينوشيه على حكومة الزعيم الاشتراكي سلفادور الليندي عام 1973، وتحويل مستوطنته الألمانية، الواقعة عند سفوح جبال الأنديز في منطقة بارال التشيلية، حينها إلى سجنٍ سري ومركزٍ لتعذيب السياسيين. يؤجّلان هذا إلى النهاية، مُكرِّسَين له دقائق قليلة فقط. هاجسهما ـ في الوثائقي الحاصل على جائزة "دوكس" أفضل فيلم، في الدورة الـ17 (النسخة الإلكترونية، 18 ـ 29 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان دوكس كوبنهاغن للفيلم الوثائقي ـ أبعد من رصد لحظة تاريخية مشينة. ففي داخل المستعمرة، التي أقامها شيفر بعد هروبه من ألمانيا عام 1961، ما يستحقّ التوقّف عنده وعرضه، لشدّة ما فيه من فظائع وممارسات تتطابق مع عقلية سلطوية مريضة، تصلح لأنْ تكون نموذجاً أو مجسَّماً مُصغَّراً لمفهوم الاستبداد.

هذا ـ سينمائياً ـ أنفع وأكثر تميّزاً. من الفضاء الرحب والمساحات الطبيعية الرائعة، المحيطة بها، يدخل الوثائقي إلى المستعمرة ـ التي غيّر الباقون فيها اسمها إلى "القرية البافارية". فيها، يُقيم المخرجان عاماً ونصف عام، ليصنعا بينهما وبين سكّانها ثقة وألفة متبادلة. اللقطة/ المفتتح تشي باطمئنان للكاميرا، وبزوال بعض حذر متأصّل في سلوكهم. معظم الباقين فيها من كبار السنّ: بعضهم جاء إلى تشيلي طفلاً، وأغلبهم طلاب المدرسة الخاصة التي كان الواعظ الإنجيلي باول فيشر يديرها في إحدى الكنائس الألمانية خلال الفترة النازية، أصرّ أهاليهم على إلحاقهم بها. آخرون وُلدوا فيها، وعاشوا في عزلة تامة عن العالم المحيط بهم.

بهذا العالم الغامض والمحاط بأسرار وخفايا، يهتم الوثائقي الدنماركي "أغنيات القمع"، ويترك للمُقيمين فيه حرية البوح وسرد الذكريات.

من غرائب المكان أنّ كلمة "غناء" تثير في نفوس سكّانه مشاعر حزن، وتسترجع ذكريات طفولتهم المُنتَهَكة. بسببها تعرّضوا للتعذيب والاغتصاب. كان التعذيب الجسدي قانوناً ثابتاً، كرّسه زعيم "الطائفة". هكذا تعامل شيفر مع رعاياه، بوصفهم أبناء طائفته الخاصة، التي لا حقّ لأحد في تسيّدها غيره، رابطاً الغناء الكنسيّ بصرامة تطبيق المبادئ، التي يعتبرها تواصلاً مع قيَم دينية تربّوا عليها في الوطن الألماني، وعليهم حفظها. كلّ تلكؤ أو نشاز في الأداء يُعرّض "مُنشد" الكورال لعقوبات، أقلّها العزل الانفرادي الطويل.

السلوك المُرتبك والشعور بالذنب لا يفارقان ضمائر من بقيَ هناك، حتى بعد غياب مرشد روحي، ترك المستعمرة بعد 36 عاماً من تزعّمها. أدركوا متأخّرين ماذا فعل بهم، إذ حوَّلهم إلى آلات قمع من دون أن يشعروا بفداحة ما هم فاعلون. فرض القانونُ رقابةَ كلِّ مستوطن على جيرانه، وعَزَل الجنسين أحدهما عن الآخر، فالمخالطة بين الأناث والذكور محرّمة، والجميع تقريباً يشتركون في التعذيب والعقوبات الجسدية. لم يدرك هؤلاء، يوم كانوا أطفالاً، ماذا يعني الفعل الجنسي، ولا معنى الخضوع جسدياً لرغبات الزعيم الروحي. اليوم يشعرون بمرارة وغصّة لا تفارقانهم، وهم يتذكّرون ماضياً لا يُحسِنون محاكمته لشدّة اختلاط تفاصيله وتعقيداتها.

أقام شيفر نظاماً تسلّطياً مخيفاً، عماده مجموعة الهرميّين، حرّاس سلطته المطلقة. فرض على أبناء "طائفته" نظام عمل وحشي يتوافق مع صرامة ألمانية. وفّر له هذا تكيّفاً ذاتياً وعزلة طويلة لا يحتاجان إلى خارجٍ يُحرّم عليه الولوج إلى حصنه نهائياً. اليوم، يجد سكّان القرية صعوبة في التعامل مع الخارج بعد طول انعزال، كانوا خلاله فرحين بما لديهم، ومُتيّقنين بصحّة ما جُبلوا عليه. لكنّ سؤالاً مريراً يتسرّب من ثنايا البوح: كيف يستقيم حُكم هؤلاء ذاتياً على أنفسهم، بعد اكتشافهم فظاعة ما عاشوه وما كانوا عليه؟ سؤال آخر أعمق وأكثر إلحاحاً على التفكير والانقسام حوله: كيف سيَحكّم الآخرون على مَنْ عاش داخل الشرنقة المغلقة، وسبّب أذى أحبّة له؟

لا يُجمِّل "أغنيات القمع" واقعاً مترسّخاً بقناعاتٍ، متراكمة طبقاته في نفوس معاييشه عبر زمن مديد، فيذهب إلى كبار السن، الذين لا يزالون ـ وهم على أعتاب مغادرة عالمنا ـ متمسّكين بقيمٍ تأسّست مستعمرتهم عليها، ولا تزال بالنسبة إليهم جديرة بالمديح. "الأغنيات" التي كانوا ينشدونها في طقوس كنسية تعبيرٌ روحي مكثّف عمّا كانوا يريدون تقديمة للربّ، إثباتاً على إيمانٍ بطاعته لا يتزعزع.

تُجلي أحاديث الموافقين على الظهور أمام الكاميرا بصراعات نفسية شديدة الإيلام، يبدو معها الحديث عن "التسامح" و"المصالحة" مع الذات والماضي عسيرة على القبول، أو حتّى التطبيق. جُلّ من تعرّض لانتهاك جنسي وجسدي من شيفر شخصياً لا يجد سهولة في قبول فكرة مسامحته على فعلته. بعد أعوام على هدم أسوار المستعمرة، يجد ضحايا بينوشيه وتعاون شيفر معه فكرة نسيان الماضي خيانة للذين دُفنوا في مقابر جماعية تحت تراب قرية هجينة، كانت مرتعاً لأبشع أنواع السلوك البشري، وأضحت نموذجاً للتحالف الكريه بين الفاشيات. في هذه الحالة، ربما الفضيلة الوحيدة لفكرة تحويل القرية/ المستعمرة إلى مزارٍ سياحي تسهيل إمكانية تقديمها كنموذج مصغّر لمفهوم الاستبداد والعسف السلطوي.

اشتغال الثنائي استيفان فاغنر وماريانه هوغن ـ موراغا عميق، ومنسوج بخيوط تصوير رائعة ومَنتجة (نيلس باغ أندرسن) عرفت كيف تقارب الفكرة الفلسفية والوجدانية بالحدث التاريخي، عبر مدّ أسلاك رابطة بين الأزمنة، تُحيل النصّ الوثائقي كلّه إلى سرد بصري، يروي بسلاسة تعقيداً بشرياً لا يزال عصياً على التفكيك، ومثار خلاف حول الحُكم عليه.

المساهمون