تشكّل الرموز المستوحاة من الثقافة الشعبية العنصر الأهم في تكوين الهوية الجمعية للشعب، وهي الجزء الأهم في الحفاظ على هذه الهوية وضمان استمراريتها، والحكاية الشعبية هي من صلب الثقافة الشعبية وأكثرها تأثيراً في البشر.
تعود أهمية الحكاية الشعبية الفلسطينية في المجتمع الفلسطيني إلى كونها سبيلاً للمحافظة على الهوية الوطنية والتراث غير المادي لشعبنا، وربط الحاضر بالماضي، خاصة في الواقع الصعب الذي نعيشه في أنحاء فلسطين والشتات، فموروثنا الثقافي هو القاعدة المشتركة التي تجمعنا رغم عدم التواصل الجغرافي، وبعيداً عن الانقسامات الفئوية التي تهدّد بشرذمة شعبنا وتفكيك وحدته.
وقد أدّت نكبة 48 التي شرّدت أهلنا من 420 قرية ومن معظم المدن الفلسطينية، إلى اندثار مهنة الحكواتي التي مارسها عدد لا بأس به من "الرواة الجوالين"، وتلك كانت مهنة جدّية، إذ كانوا كالباعة الجوالين الآخرين، يجولون في أنحاء البلاد ويسردون سير "أبو زيد الهلالي" و"الظاهر عمر" وسير بطولات أخرى في المقاهي الشعبية المخصّصة للرجال، وذلك أوّلاً بفعل الحرب والدمار الذي حلّ بالبلاد، وشمل إغلاق المقاهي، وثانياً بسبب فرض الحكم العسكري على من تبقى من أهل البلاد، وكانوا أيامها حوالي 150 ألف شخص، ما منعهم من حرية الحركة داخل البلاد، إلا بتصاريح خاصة تمنح في ظروف معينة منها المرض أو الوفاة.
وقد منع الحكم العسكري التجول يومياً في ساعات معينة، تحديداً الليل، الوقت التقليدي للحكاية، (هو منع التجوّل نفسه الذي راح ضحيته شهداء "كفر قاسم") ومنع الفلاحين من زراعة أراضيهم الواقعة في محيط قراهم، ما أدّى إلى اندثار التجمّعات في مواسم الزراعة والحصاد وتجميع أوراق نبات الدخان لتجفيفه.
وهذه المواسم كانت أكثر المواسم زخراً بالحكايات الشعبية، لأنها كانت تضيف جوّاً من المرح والترفيه إلى العمل الصعب الذي غالباً ما كان يقوم به الأطفال والنساء خاصة "شك الدخان". لاحقاً، وتكملة لاحتلال الأرض، تمّ نسب حكاياتنا الشعبية إلى المحتل أسوة بمأكولاتنا الشعبية وأزيائنا، وذلك في محاولة لطمس هويتنا وايهام أنفسهم بأنهم أصحاب المكان ولهم فيه موروث ثقافي يعود إلى آلاف السنين.
تشكل الحكايات الفلسطينية جزءاً من الموروث الثقافي العربي والعالمي، ففيها ما يميزنا من باقي الشعوب وفيها الكثير من المشترك بيننا وبين شعوب العالم. قبل عام 48 كانت هناك محاولات لتجميع الأهازيج الشعبية لبعض الباحثين الفلسطينيين الذين درسوا الفلكلور في معاهد أجنبية، لكنها توقفت مع حلول النكبة وتقسيم البلاد وحالة الفوضى التي عمّتها.
في بداية الستينيات، ومع زيادة الوعي الوطني الفلسطيني، بدأ الاهتمام بجمع الحكايات الشعبية الفلسطينية من قبل مؤسّسات أهلية، ومن قبل باحثين فلسطينيين، منهم عبد اللطيف البرغوثي ونمر سرحان ومنعم حداد وغيرهم. وقد تم إعداد بعض الحكايات الشعبية ونشرها من خلال "دار الفتى العربي" التابعة لمنظمة التحرير في بيروت عام 1975.
اقرأ أيضا:"أنا لاجئ".. شاشات ترصد معاناة اللاجئين الفلسطينيين والسوريين
أما الكتاب الذي يعتبر الأهم في دراسة الحكايات الشعبية فهو كتاب الدكتور شريف كناعنة والدكتور إبراهيم مهوي "قول يا طير"، الذي صدر بالإنكليزية (كبحث أكاديمي لجامعة أميركية درس فيها الباحثان) ولاحقاً بالفرنسية. وفي عام 2002 صدر هذا الكتاب الهامّ بالعربية.
ويستعرض الباحثان في مقدّمته خصوصية الحكايات الشعبية الفلسطينية قائلين: "إنّ فنّ الحكاية الشعبية الفلسطينية فنّ متطوّر، وأسلوبه غير مصطنع، لكن له تقاليد فنّية (لغوية وأدبية) تميزه عن فنون السرد الشعبية الأخرى. وأن رواية الحكايات الشعبية نشاط ذو بعد اجتماعي، يشكّل جزءًا من حضارة تولي التراث المحكي والمهارة اللغوية أهمّية كبيرة".
كذلك يتضمن الكتاب معلومات إثنوغرافية، من شأنها أن "توضح مدى تكامل الثقافة الفلسطينية مع الثقافة العربية من جهة، ومدى خصوصيتها وارتباطها العضوي بالأرض وبالحيز الجغرافي الذي نشأت فيه من جهة أخرى".
بالمقابل، قامت مؤسسات صهيونية بجمع الحكايات الشعبية من كبار السنّ، ومن قسم "أرشيف الفلكلور" في بيت الكرمة، الذي كان لسنوات المركز العربي اليهودي للتعايش في مدينة حيفا، الذي صدرت عنه عام 1976 مجموعة حكايات تحت اسم "قصص شعبية محلية".
لاحقاً تمّ التجميع والأرشفة في "الأرشيف الوطني الصهيوني للحكايات الشعبية" في جامعة حيفا، وقد تمّ تبويب حكاياتنا الفلسطينية تحت ما سمّي "حكايات أرض اسرائيل". وبالطبع كان أغلب الباحثين إسرائيليين من أصول عربية يتقنون اللغة العربية الفصحى، ولكنهم غير مطلعين كفاية على اللهجة المحلية، فجاء ما جمعوه من حكايات منقوصا مشوهاً في أغلبه.
اليوم، وبعد أن نلنا قسطاً يسيراً من الاستقلالية، في ما يتعلق بالشؤون التربوية، خاصة في الضفة وغزة، هناك وعي مؤسساتي رسمي وأهلي بالحاجة الماسة لجمع الحكايات الشعبية ولإعادة مركزيتها في عالم الأطفال والبالغين.
وفي ضوء هذه الرؤية شاركت وزارة الثقافة الفلسطينية في مسابقة عالمية، أعلنت عنها منظّمة اليونسكو لدعم الموروث الثقافي غير المادي، وقد تمّ اختيار الحكايات الشعبية الفلسطينية لتكون موروثاً عالمياً يجب الحفاظ عليه من الاندثار، تحت ظروف احتلال لا يرحم وتكنولوجيا تبعد الناس عن موروثهم الشعبي. دعم حركة الحفاظ على موروثنا الثقافي من خلال تجميع الحكايات من كبار السن وإعدادها لتلائم الأطفال، بالطبع بعد القراءة النقدية وإبعاد كل ما هو غير ملائم، خصوصاً في ما يتعلق بدونية المرأة وعدم تقبّل الآخر والعنف.
أيضاً صدر دليل هو الأول في العالم العربي للمربين والمعلمين بعنوان "دليل فنّ سرد الحكايات والقصص"، عن وزارتي الثقافة والتربية في رام الله، وتمّ تأهيل كوادر شابة على فنّ الحكي، كي يعودوا لسرد حكايتنا الشعبية التي تناقلتها الأجيال منذ عهود بعيدة.
اقرأ أيضا:فلسطيني عاد لمنزله بعد 29 سنة من النكبة
وقد أدّت نكبة 48 التي شرّدت أهلنا من 420 قرية ومن معظم المدن الفلسطينية، إلى اندثار مهنة الحكواتي التي مارسها عدد لا بأس به من "الرواة الجوالين"، وتلك كانت مهنة جدّية، إذ كانوا كالباعة الجوالين الآخرين، يجولون في أنحاء البلاد ويسردون سير "أبو زيد الهلالي" و"الظاهر عمر" وسير بطولات أخرى في المقاهي الشعبية المخصّصة للرجال، وذلك أوّلاً بفعل الحرب والدمار الذي حلّ بالبلاد، وشمل إغلاق المقاهي، وثانياً بسبب فرض الحكم العسكري على من تبقى من أهل البلاد، وكانوا أيامها حوالي 150 ألف شخص، ما منعهم من حرية الحركة داخل البلاد، إلا بتصاريح خاصة تمنح في ظروف معينة منها المرض أو الوفاة.
وقد منع الحكم العسكري التجول يومياً في ساعات معينة، تحديداً الليل، الوقت التقليدي للحكاية، (هو منع التجوّل نفسه الذي راح ضحيته شهداء "كفر قاسم") ومنع الفلاحين من زراعة أراضيهم الواقعة في محيط قراهم، ما أدّى إلى اندثار التجمّعات في مواسم الزراعة والحصاد وتجميع أوراق نبات الدخان لتجفيفه.
وهذه المواسم كانت أكثر المواسم زخراً بالحكايات الشعبية، لأنها كانت تضيف جوّاً من المرح والترفيه إلى العمل الصعب الذي غالباً ما كان يقوم به الأطفال والنساء خاصة "شك الدخان". لاحقاً، وتكملة لاحتلال الأرض، تمّ نسب حكاياتنا الشعبية إلى المحتل أسوة بمأكولاتنا الشعبية وأزيائنا، وذلك في محاولة لطمس هويتنا وايهام أنفسهم بأنهم أصحاب المكان ولهم فيه موروث ثقافي يعود إلى آلاف السنين.
تشكل الحكايات الفلسطينية جزءاً من الموروث الثقافي العربي والعالمي، ففيها ما يميزنا من باقي الشعوب وفيها الكثير من المشترك بيننا وبين شعوب العالم. قبل عام 48 كانت هناك محاولات لتجميع الأهازيج الشعبية لبعض الباحثين الفلسطينيين الذين درسوا الفلكلور في معاهد أجنبية، لكنها توقفت مع حلول النكبة وتقسيم البلاد وحالة الفوضى التي عمّتها.
في بداية الستينيات، ومع زيادة الوعي الوطني الفلسطيني، بدأ الاهتمام بجمع الحكايات الشعبية الفلسطينية من قبل مؤسّسات أهلية، ومن قبل باحثين فلسطينيين، منهم عبد اللطيف البرغوثي ونمر سرحان ومنعم حداد وغيرهم. وقد تم إعداد بعض الحكايات الشعبية ونشرها من خلال "دار الفتى العربي" التابعة لمنظمة التحرير في بيروت عام 1975.
اقرأ أيضا:"أنا لاجئ".. شاشات ترصد معاناة اللاجئين الفلسطينيين والسوريين
أما الكتاب الذي يعتبر الأهم في دراسة الحكايات الشعبية فهو كتاب الدكتور شريف كناعنة والدكتور إبراهيم مهوي "قول يا طير"، الذي صدر بالإنكليزية (كبحث أكاديمي لجامعة أميركية درس فيها الباحثان) ولاحقاً بالفرنسية. وفي عام 2002 صدر هذا الكتاب الهامّ بالعربية.
ويستعرض الباحثان في مقدّمته خصوصية الحكايات الشعبية الفلسطينية قائلين: "إنّ فنّ الحكاية الشعبية الفلسطينية فنّ متطوّر، وأسلوبه غير مصطنع، لكن له تقاليد فنّية (لغوية وأدبية) تميزه عن فنون السرد الشعبية الأخرى. وأن رواية الحكايات الشعبية نشاط ذو بعد اجتماعي، يشكّل جزءًا من حضارة تولي التراث المحكي والمهارة اللغوية أهمّية كبيرة".
كذلك يتضمن الكتاب معلومات إثنوغرافية، من شأنها أن "توضح مدى تكامل الثقافة الفلسطينية مع الثقافة العربية من جهة، ومدى خصوصيتها وارتباطها العضوي بالأرض وبالحيز الجغرافي الذي نشأت فيه من جهة أخرى".
بالمقابل، قامت مؤسسات صهيونية بجمع الحكايات الشعبية من كبار السنّ، ومن قسم "أرشيف الفلكلور" في بيت الكرمة، الذي كان لسنوات المركز العربي اليهودي للتعايش في مدينة حيفا، الذي صدرت عنه عام 1976 مجموعة حكايات تحت اسم "قصص شعبية محلية".
لاحقاً تمّ التجميع والأرشفة في "الأرشيف الوطني الصهيوني للحكايات الشعبية" في جامعة حيفا، وقد تمّ تبويب حكاياتنا الفلسطينية تحت ما سمّي "حكايات أرض اسرائيل". وبالطبع كان أغلب الباحثين إسرائيليين من أصول عربية يتقنون اللغة العربية الفصحى، ولكنهم غير مطلعين كفاية على اللهجة المحلية، فجاء ما جمعوه من حكايات منقوصا مشوهاً في أغلبه.
اليوم، وبعد أن نلنا قسطاً يسيراً من الاستقلالية، في ما يتعلق بالشؤون التربوية، خاصة في الضفة وغزة، هناك وعي مؤسساتي رسمي وأهلي بالحاجة الماسة لجمع الحكايات الشعبية ولإعادة مركزيتها في عالم الأطفال والبالغين.
وفي ضوء هذه الرؤية شاركت وزارة الثقافة الفلسطينية في مسابقة عالمية، أعلنت عنها منظّمة اليونسكو لدعم الموروث الثقافي غير المادي، وقد تمّ اختيار الحكايات الشعبية الفلسطينية لتكون موروثاً عالمياً يجب الحفاظ عليه من الاندثار، تحت ظروف احتلال لا يرحم وتكنولوجيا تبعد الناس عن موروثهم الشعبي. دعم حركة الحفاظ على موروثنا الثقافي من خلال تجميع الحكايات من كبار السن وإعدادها لتلائم الأطفال، بالطبع بعد القراءة النقدية وإبعاد كل ما هو غير ملائم، خصوصاً في ما يتعلق بدونية المرأة وعدم تقبّل الآخر والعنف.
أيضاً صدر دليل هو الأول في العالم العربي للمربين والمعلمين بعنوان "دليل فنّ سرد الحكايات والقصص"، عن وزارتي الثقافة والتربية في رام الله، وتمّ تأهيل كوادر شابة على فنّ الحكي، كي يعودوا لسرد حكايتنا الشعبية التي تناقلتها الأجيال منذ عهود بعيدة.
اقرأ أيضا:فلسطيني عاد لمنزله بعد 29 سنة من النكبة