30 سبتمبر 2024
النظام العالمي الجديد آتٍ
لا يطرح دونالد ترامب شعار"أميركا أولاً" ترفاً، أو مكايدةً لأطرافٍ خارجية، بقدر ما هو تأكيد لحقيقةٍ حاول سلفه باراك أوباما طرحها بطريقة أكثر تشذيباً، وهي أن أميركا تعبت من قيادة العالم، ولم تعد قادرةً على ممارسة دور الشرطي في مقابل حصولها على جائزة معنوية، تتمثل بوصف القوّة الأعظم في العالم.
ليس سراً أن أميركا في عهد ترامب ستسعى إلى إعادة تشكيل النظام الدولي، مع مفارقة أن النظام الدولي الحالي هو من صناعتها وتصميمها. لكن، وكما يقول وزير خارجيتها الأسبق، هنري كيسنجر، في كتابه "النظام العالمي"، تغيرت المعطيات بشكل كبير، ذلك أنه، بعد نهاية الحرب العالية الثانية، كان إنتاج أميركا يمثل 55% من الناتج العالمي، وقد وفّر ذلك إمكانية ليكون لها سياسة تجاه كل مناطق العالم، في حين لا يتجاوز اليوم ناتجها نسبة 22% من الناتج العالمي، وهو لا يتيح لها سوى إنتاج سياسات تجاه بعض مناطق العالم وليس كله.
لم تعد فكرة وجود قوى عظمى وحيدة جذابة كثيراً، حتى لو أرادت المؤسسة الأميركية ذلك، أو رغبت به، فهناك رأي عام بات ينحرف عن هذه الفكرة كثيراً، تجنباً للاستحقاقات التي ترتبها، ذاك أن الإحباط الاقتصادي الناتج من العولمة والتجارة الحرّة، وما نجم عنهما من تخفيض الأجور والوظائف للعمال الصناعيين في المجتمعات المتقدمة، جعل الرأي العام يميل إلى الانحراف نحو الشعبوية الاقتصادية والقومية.
ثم إن فكرة القوى العظمى الوحيدة لم تجعل أميركا تحصل على كل ما تريده بسهولة عن طريق إرسال قواتها إلى مناطق الصراعات، وتجارب أفغانستان والعراق، وقبلهما فيتنام، جعلت الرأي العام الأميركي ينفر كثيراً من فكرة القوة العظمى الوحيدة، في وقتٍ تحقّق فيه روسيا رغباتها السياسية، من دون هذه الصفة، كما الصين أيضاً، وهي تحقق رغباتها التجارية كاملة. ولكن، كيف سيتم تشكيل النظام العالمي، أو ما هي ملامح تشكّله الظاهرة حتى الآن؟ يمكن تحديد أربعة ملامح تشكّل مجتمعة السياق إلى نظام دولي جديد:
- تشكّل محاربة العولمة أهم مظاهر هذا النظام العالمي الجديد، فقد شكّلت العولمة أكثر من
ثلاثين سنة ماضية الرابط التفاعلي للعلاقات الدولية، وأي انفكاك عنها سيجبر الفاعلين الدوليين على تغيير نمط علاقاتهم وطبيعة تفاعلهم مع العالم.
- يتمثل الملمح الثاني بعدم ممانعة أميركا صعود قوى دولية جديدة، أو على الأقل لم يعد لهذا المعطى أهمية كبيرة في السياسة الخارجية الأميركية التي كانت تشتغل في سنوات سابقة على فكرة معرفة الأشياء التي يجب منع حدوثها بأي شكل، ومهما كلّف من أثمان، أكثر من معرفة الأهداف التي تريد أميركا تحقيقها، ودعوة ترامب أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية إلى الاعتماد على أنفسها في مواجهة المخاطر، وحتى صناعة أسلحة نووية، هو ترجمة لعدم اهتمام أميركا بصعود قوى جديدة، أو منع حدوث متغيراتٍ تؤثر على النظام الدولي. والمهم بالنسبة لترامب هو علاقات تجارية دولية جديدة، يكون لأميركا فيها وضع الأفضلية، لا نظام دولي تكون القوة الوحيدة فيه.
- عدم ممانعة حصول القوى الدولية على مناطق نفوذ لها، وهو الأمر الذي كانت تقاومه أميركا، لاعتباره مؤشراً على تنامي قوّة الفاعلين الدوليين المنافسين، في حين يطرح ترامب هذه القضية إلى مجال المساومة والتفاوض، وينزعها من مدار المبادئ الإستراتيجية الأميركية الرافضة توسيع مناطق النفوذ للخصوم، فليست مشكلة ترامب مع الصين وصولها إلى الجزر المتنازع عليها مع الفيليبين، بقدر ما أن ذلك يتيح للصين طرق نقل وتجارة أوسع. وبالتالي، هو سيسعى إلى توسيع خيارات المساومة معها بالدرجة الأساس، وليس تضييق مساحة نفوذها.
- تخصيص الخدمات العسكرية والأمنية، فلم يعد الانخراط بالنزاعات والأزمات مبرّراً ما لم يأت بنتائج ملموسة، شأن أي استثمار تجاري آخر، أو يكون الهدف منه حماية مصالح واضحة، تماماً كما تفعل الصين، بحصر استخدامها القوّة في مجالها، ومن أجل خدمة مشروعها الاقتصادي، وكما يفعل بوتين من خلال اقتطاع أراض جديدة لصالح روسيا، في أوكرانيا وسورية. وعلى ذلك، لم يعد نمط التدخل تحت يافطة شعارات فضفاضة صالحاً للعمل به في الزمن الحالي، وعلى من يريد التمتع بحماية عسكرية وخدمات أمنية أن يدفع مقابلها، وهذا ما لم يتحرّج ترامب في التصريح العلني عنه.
لكن، ما هي الآليات التي سيتم من خلالها الانتقال إلى النظام الدولي الجديد؟ أو كيف يمكن
إدراج هذه المتغيرات في الواقع الدولي؟ ثمّة مؤشرات عديدة على وجود معارضة للانتقال إلى نظام دولي جديد، سواء من داخل المؤسسة الأميركية نفسها التي تشهد انقساما ملحوظاً حتى داخل الفريق الذي اختاره ترامب لتنفيذ السياسات الأميركية، أو من الأطراف الدولية الأخرى (أوروبا وشرق آسيا والشرق الأوسط) التي لم ترتب أمورها بعد، للتكيف مع نظام دولي جديد. وبالتالي، ونظراً لوجود حالة الاعتراض، وما لأصحابها من تأثير، فالمرجح أن العالم لن يشهد نقلة نوعية مرّة واحدة، بل من المرجح أن يجري اتخاذ سلسلة من القرارات التكتيكية البحتة التي تجعل اندراج المتغيرات مع الزمن يحدث من دون حصول تداعيات ملموسة، وهو النمط نفسه الذي اشتهرت به سياسة فلاديمير بوتين، ولم يخف ترامب إعجابه بها.
ربما تعاند بعض الأطراف والتجمعات الإنتقال إلى نظام دولي جديد. لكن، لا يبدو أن ثمّة خيارات كبيرة أمامها، وعليها أن تدرك أن النظام القديم مات، ليست القضية ترامب، بل هي ثورة على النخب التي صنعت النظام العالمي المعولم، واستبداله بنظام يقوم على النيو قومية.
ليس سراً أن أميركا في عهد ترامب ستسعى إلى إعادة تشكيل النظام الدولي، مع مفارقة أن النظام الدولي الحالي هو من صناعتها وتصميمها. لكن، وكما يقول وزير خارجيتها الأسبق، هنري كيسنجر، في كتابه "النظام العالمي"، تغيرت المعطيات بشكل كبير، ذلك أنه، بعد نهاية الحرب العالية الثانية، كان إنتاج أميركا يمثل 55% من الناتج العالمي، وقد وفّر ذلك إمكانية ليكون لها سياسة تجاه كل مناطق العالم، في حين لا يتجاوز اليوم ناتجها نسبة 22% من الناتج العالمي، وهو لا يتيح لها سوى إنتاج سياسات تجاه بعض مناطق العالم وليس كله.
لم تعد فكرة وجود قوى عظمى وحيدة جذابة كثيراً، حتى لو أرادت المؤسسة الأميركية ذلك، أو رغبت به، فهناك رأي عام بات ينحرف عن هذه الفكرة كثيراً، تجنباً للاستحقاقات التي ترتبها، ذاك أن الإحباط الاقتصادي الناتج من العولمة والتجارة الحرّة، وما نجم عنهما من تخفيض الأجور والوظائف للعمال الصناعيين في المجتمعات المتقدمة، جعل الرأي العام يميل إلى الانحراف نحو الشعبوية الاقتصادية والقومية.
ثم إن فكرة القوى العظمى الوحيدة لم تجعل أميركا تحصل على كل ما تريده بسهولة عن طريق إرسال قواتها إلى مناطق الصراعات، وتجارب أفغانستان والعراق، وقبلهما فيتنام، جعلت الرأي العام الأميركي ينفر كثيراً من فكرة القوة العظمى الوحيدة، في وقتٍ تحقّق فيه روسيا رغباتها السياسية، من دون هذه الصفة، كما الصين أيضاً، وهي تحقق رغباتها التجارية كاملة. ولكن، كيف سيتم تشكيل النظام العالمي، أو ما هي ملامح تشكّله الظاهرة حتى الآن؟ يمكن تحديد أربعة ملامح تشكّل مجتمعة السياق إلى نظام دولي جديد:
- تشكّل محاربة العولمة أهم مظاهر هذا النظام العالمي الجديد، فقد شكّلت العولمة أكثر من
- يتمثل الملمح الثاني بعدم ممانعة أميركا صعود قوى دولية جديدة، أو على الأقل لم يعد لهذا المعطى أهمية كبيرة في السياسة الخارجية الأميركية التي كانت تشتغل في سنوات سابقة على فكرة معرفة الأشياء التي يجب منع حدوثها بأي شكل، ومهما كلّف من أثمان، أكثر من معرفة الأهداف التي تريد أميركا تحقيقها، ودعوة ترامب أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية إلى الاعتماد على أنفسها في مواجهة المخاطر، وحتى صناعة أسلحة نووية، هو ترجمة لعدم اهتمام أميركا بصعود قوى جديدة، أو منع حدوث متغيراتٍ تؤثر على النظام الدولي. والمهم بالنسبة لترامب هو علاقات تجارية دولية جديدة، يكون لأميركا فيها وضع الأفضلية، لا نظام دولي تكون القوة الوحيدة فيه.
- عدم ممانعة حصول القوى الدولية على مناطق نفوذ لها، وهو الأمر الذي كانت تقاومه أميركا، لاعتباره مؤشراً على تنامي قوّة الفاعلين الدوليين المنافسين، في حين يطرح ترامب هذه القضية إلى مجال المساومة والتفاوض، وينزعها من مدار المبادئ الإستراتيجية الأميركية الرافضة توسيع مناطق النفوذ للخصوم، فليست مشكلة ترامب مع الصين وصولها إلى الجزر المتنازع عليها مع الفيليبين، بقدر ما أن ذلك يتيح للصين طرق نقل وتجارة أوسع. وبالتالي، هو سيسعى إلى توسيع خيارات المساومة معها بالدرجة الأساس، وليس تضييق مساحة نفوذها.
- تخصيص الخدمات العسكرية والأمنية، فلم يعد الانخراط بالنزاعات والأزمات مبرّراً ما لم يأت بنتائج ملموسة، شأن أي استثمار تجاري آخر، أو يكون الهدف منه حماية مصالح واضحة، تماماً كما تفعل الصين، بحصر استخدامها القوّة في مجالها، ومن أجل خدمة مشروعها الاقتصادي، وكما يفعل بوتين من خلال اقتطاع أراض جديدة لصالح روسيا، في أوكرانيا وسورية. وعلى ذلك، لم يعد نمط التدخل تحت يافطة شعارات فضفاضة صالحاً للعمل به في الزمن الحالي، وعلى من يريد التمتع بحماية عسكرية وخدمات أمنية أن يدفع مقابلها، وهذا ما لم يتحرّج ترامب في التصريح العلني عنه.
لكن، ما هي الآليات التي سيتم من خلالها الانتقال إلى النظام الدولي الجديد؟ أو كيف يمكن
ربما تعاند بعض الأطراف والتجمعات الإنتقال إلى نظام دولي جديد. لكن، لا يبدو أن ثمّة خيارات كبيرة أمامها، وعليها أن تدرك أن النظام القديم مات، ليست القضية ترامب، بل هي ثورة على النخب التي صنعت النظام العالمي المعولم، واستبداله بنظام يقوم على النيو قومية.