هل تعكس انتخابات الأردن المزاج العربي في المشرق؟

17 سبتمبر 2024

أردنية تدلي بصوتها في مراكز انتخابي في عمّان (10/9/2024 Getty)

+ الخط -

فاز إسلاميو الأردن بأكبر كتلة في مجلس النواب الأردني، وَسَط منافسة انتخابية ساخنة بين تيّارات متعدّدة الانتماءات، ولكنّها بشهادة لجان حقوقية دولية تميّزت بالشفافية والنزاهة. وثمّة ملاحظتان قبل تحليل هذا التطوّر، أولاها أنّ المناخ الإعلامي في الأردن لم يكن لمصلحة الإخوان المسلمين، بل إنّ شخصيات حزبية عديدة، من تيّارات قومية ويسارية كانت تستسهل التهجّم على الإسلاميين وتحميلهم مسؤولية الخراب الحاصل في المنطقة، بل لم يعد لدى هؤلاء برامج ولا مشروعات سوى التهجّم على الإسلامين، وكان هؤلاء يجدون ترحيباً في المنابر الإعلامية. ثانيهما أنّ الدولة الأردنية "العميقة" لم تتدخّل، كما هو واضح من النتائج، في العملية الانتخابية، إذ بالرغم من وجود جهات وشخصيات، وحتّى أحزاب، زعمت أنّها ممثّلة للدولة ومتناغمة مع توجّهاتها وسياساتها في المرحلة المُقبلة، وأنّ مُرشَّحيها مدعومون مباشرة من مراكز صنع القرار، إلّا أنّ النتائج وشهادة اللجان الدولية أثبتت عكس ذلك، وهذا يُؤشّر إلى نتيجتَين مهمّتين: أنّ الأردن جادّ في السير في طريق التحديث السياسي، وأنّ هذه الانتخابات أوّل اختباراته، وقد تجاوزها بنجاح، بمعنى أنّ الورشة الفكرية التي جرت قبل عامَين، برئاسة رئيس الوزراء السابق، سمير الرفاعي، لم تكن مُجرَّد مسرحية لإلهاء الشارع، كما اعتقد بعضهم. والنتيجة الثانية، أنّ الدولة الأردنية تجاوزت الخوف من الإسلاميين في سبيل منح المجتمع فرصةَ المشاركة في صوغ السياسات العامّة عبر ممثّليه في البرلمان.

طرحت الانتخابات الأردنية سؤالاً بشأن حصول الإسلام السياسي على النتيجة المتقدّمة بعد عقد من التشويه وحروب التجريف التي تعرّض لها عربياً

ولعلّ السؤال الأكثر أهمّيةً، الذي طرحته نتيجة الانتخابات: كيف استطاع الإسلام السياسي الحصول على هذه النتيجة بعد عقد من التشويه وحروب التجريف التي تعرّض لها في البيئة العربية، وطاولت رموزه وهياكله ومعتقداته في مدار عقد، ومنذ انطلاق ما تسمّى "الثورات المضادّة"، ردّاً على "الربيع العربي"؟ ... انطلقت بالتوازي حملة منسّقة إقليمياً ودولياً لمحاربة الإسلام السياسي في المنطقة العربية، صُرِفت فيها مبالغُ ماليةٌ هائلةٌ، وخُصّصت عشرات من المنابر الإعلامية ومراكز الدراسات، بالتزامن مع حرب ميدانية شعواء ضدّ ما له علاقة بالإسلام السياسي، وهو ما يمكن تسميتها فعلاً "العشرية السوداء" للإسلام السياسي.
وهكذا، استُخدم الإسلام السياسي ذريعةً للقضاء على أشواق الحرّية في المنطقة العربية، وتكريس الاستبداد، بذريعة حماية الأوطان من التطرّف والإرهاب، بعد أن جرى الخلط بين الإسلام السياسي المُعتدِل والمُنظّم، والتنظيمات التي أفرزتها الحرب واستراتيجية الفوضى المقصودة التي اتّبعتها أجهزة الاستخبارات العربية والدولية، والتي كان من مُخرجاتها هذا الكمّ الهائل من التنظيمات المُتطرّفة ("داعش" وأضرابها)، التي لم تكن لها صلة بـ"الربيع العربي" ولا بالإسلام السياسي التقليدي.
نتيجة ذلك، بدأ ترويج مزاعم أنّها حقائق راسخة، أنّ الإسلام السياسي انتهى في العالم العربي، وقد تحتاج عودته إلى قرن بعد أن كشفت الأحداث ضيق آفاقه وافتقاره إلى مشروع سياسي، وعدم قدرته على الحكم، بل ذهب بعضهم إلى القول بتراجع التديّن في الشارع العربي إلى حدّ بعيد، بالاستناد إلى مظاهر عابرة وغير حقيقية، كأن يُقال مثلاً إنّ زواج المُساكَنة بدأ ينتشر بكثرة في دمشق، أو عودة السفور إلى تونس فيما يشبه الردّة عن مرحلة حكم الإسلاميين، ليخلص أصحاب هذه القراءات المُتسرّعة إلى أنّ بيئة الإسلام السياسي قد تفكّكت بما يُعزّز فرضية استحالة عودة الإسلام السياسي إلى الحياة قبل عقود.
لكنّ التجربة العملية، وهي الانتخابات الأردنية، أثبتت عكس ذلك تماماً. صحيح أنّ الإسلاميين لم يكتسحوا البرلمان الأردني، بل فازوا بربع مقاعده، وأنّ من المُبكّر توقّع إمكانية تشكيل ائتلاف واسع يُمكّنهم من التأثير في سياسات الأردن، بالنظر إلى وجود تيّارات وتوجّهات عدّة لا تتّفق معهم، لكنّهم أثبتوا أنّهم حيثية لا يمكن تجاهلها، وطرفٌ فاعل في التأثير على اتجاهات الرأي العام، صحيح أنّهم لم يتعرّضوا في الأردن لعملية اجتثاث كما حصل في بلدان عربية عديدة، لكنّهم كانوا مُستهدَفين من الحملة الإعلامية الرهيبة، على المستويين الإقليمي والدولي، ضدّ الجماعات الإسلامية. وأثبتت التجربة العملية، أيضاً، فرضية جديرة بالاهتمام، أنّه كلّما كان هناك مناخ ديمقراطي وعدم تدخّل من الدولة كانت هناك فرصة للإسلام السياسي للفوز في الانتخابات، ربّما لأنّهم الجهة الأكثر تنظيماً ومعرفةً بمخاطبة الناس، وربّما لتهافت خطاب القوى الحزبية التقليدية في المنطقة، بل تخاذلها ووقوفها مع الأنظمة المُستبدَّة في انتهازية سياسية مكشوفة، هدفها إزاحة منافسة الإسلاميين لهم، ما جعلهم، في المحصلة، قوىً غيرَ مرئيةٍ إلا عندما تُوظِّفهم الأنظمة الحاكمة في بروباغاندا تشويه الإسلاميين.

كلّما كان هناك مناخ ديمقراطي كانت فرصة للإسلام السياسي للفوز في الانتخابات

وثمّة مفتاح تفسيري مهمّ لفهم عودة الإسلاميين، إذ بالإضافة إلى تهافت القوى المنافسة، فإنّها تعود في أسبابها إلى تعرّض المشرق العربي لحربٍ هُويَّاتيّةٍ مكشوفةٍ تشنّها إسرائيل وإيران من دون هوادة، ما جعل الإسلاميين أكثر طرفٍ لديه قدرةٌ على التعبير عن مشاعر الأغلبية وهواجسها في هذه المرحلة، ولا سيّما في ظلّ عجز الأنظمة الحاكمة والأحزاب التقليدية عن مواجهة هذه المخاطر، وحتّى التعبير عنها، ما رشَّح (ويُرشِّح) الإسلاميين لتصدّر المرحلة المُقبلة، من حيث التأثير في توجّهات الرأي العام في المشرق العربي ودول جوار فلسطين، وتلك الواقعة تحت التأثير الإيراني.
لقد فعلت الأنظمة العربية في السنوات السابقة كلّ شيء لإزاحة الإسلاميين من المشهد، واعتقدت أنّ هذا هو السبيل إلى احتلال مساحة تأثيرهم في الشارع العربي. ثم تبيّن أنّ المِزَاج العربي تجذبه القوى التي يعتقد أنّها تُعبّر عنه، ولا سيّما عند إحساسه بمخاطر داهمة تُهدِّده.

5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".