المواجهة الأميركية-الإيرانية: رهانات طهران الداخلية والخارجية

05 نوفمبر 2018
إيرانيون يحرقون العلمين الأميركي والإسرائيلي أمس (عطا كيناري/فرانس برس)
+ الخط -

تبدأ المواجهة السياسية بين إيران والولايات المتحدة، فصلاً جديداً اليوم الإثنين، مع دخول حزمة العقوبات الأميركية الثانية على طهران حيّز التنفيذ العملي فجر اليوم الإثنين، لينفذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب وعيده بعد أن انسحب من الاتفاق النووي في مايو/أيار الماضي، وأعاد فرض العقوبات الملغاة بموجبه على مرحلتين، الأولى كانت في أغسطس/آب الماضي، والثانية وصلت اليوم مستهدفة النفط والتبادلات المالية مع إيران.
وجاء تجدد العقوبات بعد ساعات من إحياء الإيرانيين أمس ذكرى اقتحام السفارة الأميركية في طهران عام 1979، إذ تجمّع مئات الإيرانيين أمام السفارة مرددين شعار الموت لأميركا ولرئيسها دونالد ترامب. كما خرجت تظاهرات في عدة مدن ومناطق إيرانية ثانية لإحياء المناسبة والتنديد بالسياسات الأميركية.

واستغل المسؤولون الإيرانيون هذه المناسبة لتوجيه رسائل عن قدرتهم على الصمود في وجه العقوبات الأميركية. وأكد قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري، في كلمته أمام مقر السفارة أمس، أن بلاده ستكون قادرة على مواجهة "المؤامرة الأميركية وعقوباتها الاقتصادية". ووجّه تحذيراً حاداً للرئيس الأميركي فخاطبه بالقول "إياك أن تهدد إيران، لأننا ما زلنا نسمع أنين جنودك وأصواتهم الخائفة"، مضيفاً أن إيران تواجه حرباً اقتصادية وإعلامية ونفسية لكنها ستنتهي بفشل أميركا. واعتبر أن المجتمع الدولي برمته يدرك أن القدرة الأميركية تتجه نحو الأفول، مضيفاً "هناك مؤسسات غربية تعترف بقوة إيران وتعرف حجمها، كما تدرك أن العرب من حولها غير قادرين على الرد على صواريخها وأسلحة قواتها البحرية". وشدد على أن بلاده لن تتراجع عن سياساتها الإقليمية، مقابل اعتباره أن الاستراتيجيات الأميركية في الإقليم قد فشلت.

في السياق، رد نائب قائد الحرس الثوري حسين سلامي، على تصريحات سابقة لترامب قال فيها إن "إيران كانت على وشك الاستحواذ على المنطقة في 12 دقيقة"، فاعتبر في حوار متلفز أنه "لو أرادت إيران ذلك لاستحوذت على أميركا في الشرق الأوسط وتحكّمت بها خلال 12 دقيقة". وأشار سلامي إلى أن حاملات الطائرات الأميركية الموجودة في المياه الخليجية تقع في مرمى الصواريخ الإيرانية، مشدداً على أن قدرة إيران أصبحت توازي الأميركية، مشككاً بقدرة الولايات المتحدة السياسية والعسكرية والتي تمنعها من الدخول في حرب، بحسب رأيه. كما رأى أن الرئيس الأميركي مثال للشخصية الأميركية السياسية التي أثبتت أنها تريد إذلال الشعوب، مؤكداً هو الآخر أن طهران ستكون قادرة على مواجهة العقوبات.

وفي سياق التصعيد الإيراني، قال رئيس مجلس الشورى الإسلامي علي لاريجاني، في كلمة خلال جلسة برلمانية أمس الأحد، إن "إيران لن تنسى موقف بعض دول المنطقة التي أيّدت سلوك الولايات المتحدة وإسرائيل"، مؤكداً أن الإيرانيين سيثبتون لترامب أنه من غير الممكن إخضاعهم.

وكان المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، اعتبر خلال اجتماعه بطلاب إيرانيين السبت، أن نتيجة الحرب الأميركية العسكرية والاقتصادية وحتى الإعلامية ضد بلاده كانت لصالح إيران طيلة الأربعين عاماً الماضية، مشيراً إلى أن "الولايات المتحدة تعادي الشارع الإيراني منذ سنين ولّت وحتى قبل انتصار ثورته الإسلامية". هذا الخطاب ركز عليه عدد من المسؤولين الإيرانيين كثيراً في الفترة الأخيرة، فالعقوبات تستهدف المدنيين بالدرجة الأولى، وهو ما قد يزيد من حجم الغيظ إزاء واشنطن، ويدعم الخطاب المنادي بالاعتماد على قدرات الداخل لا على العلاقات مع الغرب.

تطور الصراع
وعلى الرغم من التوصل للاتفاق النووي عام 2015، إلا أن تطورات الأعوام الأخيرة أكدت أن الصراع بين طهران وواشنطن يتحرك من مرحلة لأخرى، ففي ذكرى اقتحام مقر السفارة الأميركية العام الماضي، لم يكن ترامب قد قرر الخروج من الاتفاق، ومع ذلك لم يغب شعار الموت لأميركا أو الانتقادات لتصريحاته الداعية لفرض المزيد من العقوبات على طهران، وتعمّد الحرس الثوري حينها عرض صاروخ باليستي بعيد المدى، وهو يعلم أن ملف الصواريخ هو أحد مسببات الضغط الأميركي الذي أسفر عن خطوة الانسحاب من الاتفاق.
أما الأعوام التي سبقت 2017 والتي تزامنت مع سياسات أقل تشنجاً أبداها الرئيسان الإيراني حسن روحاني والأميركي باراك أوباما، فلم تغب عنها ذكرى اقتحام السفارة في طهران بطبيعة الحال، وتزامنت وانتقادات أبدتها الأطراف المحافظة المتشددة أكثر من غيرها، وأجواء سياسية أقل تصعيداً بشكل عام.

لكن في نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، اختلفت كافة المعطيات، وعاد الكل في إيران بكافة الأطياف وحتى من يلوحون بضرورة الحوار مع الولايات المتحدة، إلى انتقاد سياسات واستراتيجيات واشنطن التي تستهدف الشارع أولاً، كما يقولون. ويحاول المسؤولون في المؤسسات السياسية والاقتصادية والعسكرية على حد سواء، التعامل مع العقوبات على البلاد بالتأكيد داخلياً على قدرة المواجهة والصمود، من دون الاستهانة بتبعاتها. فالولايات المتحدة تعيد فرض عقوبات علّقتها بداية بعد اتفاق جنيف المؤقت في 2013، وألغتها بنود الاتفاق النووي نظرياً في 2015، وجذور بعضها يعود إلى العام 1996 وأخرى تم وضعها أو تشديدها ما بين 2010 و2013.

وتحمل العقوبات الأميركية المتعددة أكثر من عنوان، بعضها كان بغرض معاقبة إيران على نشاطها النووي، وبعضها الآخر لاتهامها بدعم الإرهاب وتطوير السلاح، بحسب الولايات المتحدة. والجدير بالذكر أن جزءاً من هذه العقوبات لم يلغَ أساساً، حتى بعد إعطاء الضوء الأخضر لتنفيذ الاتفاق النووي عملياً.
وتقف العقوبات الأميركية بوجه الاستثمار في حقول النفط الإيرانية، وهذا لا يطاول الشركات الأميركية فقط، وإنما كل من يقرر التعاون مع طهران في هذا القطاع بمبالغ تزيد عن عشرين مليون دولار. كما تمنع تزويد إيران بالبنزين أو تصدير قطع قد تساعدها على إنتاجه وتكريره محلياً. وفي العامين 2011 و2012 شددت واشنطن العقوبات على النفط وعلى الشركات الناقلة له وتلك التي تمنح التأمين، وإدارة أوباما كانت تدرك أن ذلك سيؤدي لارتباك في سوق الطاقة العالمية ولارتفاع أسعار النفط ولخسارة الولايات المتحدة لدعم شركائها ممن يحتاجون النفط. وإثر ذلك الحظر الذي يعود اليوم، واجهت طهران مشاكل معقدة، فخسرت حصصها في سوق الإنتاج، وسارع آخرون للحصول عليها ولتقسيم الكعكة.


وفي العام 2011 أيضاً، عاقبت الولايات المتحدة مالياً إيران، واستهدفت مصرفها المركزي من دون هوادة. ولم تتوان الخزانة الأميركية منذ العام 2006 عن بذل الجهود لوضع العراقيل أمام علاقات طهران المالية، متحججة باستخدام طهران لعائداتها وأرصدتها في تمويل "الإرهاب"، ووضعت مصارف إيرانية على قائمة العقوبات، شُطبت عنها بعد الاتفاق، وستعود اليوم إليها مع إضافة مصارف وكيانات ومؤسسات ثانية.
ومع ذلك، أبدى الرئيس حسن روحاني عدم خشية بلاده مما هو آتٍ، واستبقت الخارجية الإيرانية العقوبات ببيان مطوّل وصف السلوك الأميركي بالفاشل أخلاقياً، وأكد أن إيران لن تسمح لإدارة ترامب بتحقيق أهدافها غير المشروعة وستتعاون بالمقابل مع كل الدول الصديقة وستعتمد على قدراتها المحلية وعلاقاتها الدولية لمواجهة التبعات.

رهان على أوروبا
اعتمدت إيران كثيراً على موقف المجتمع الدولي بما يزيد من حصانتها، ويبدو أنها ستلتزم بهذه الخطة في المستقبل القريب، فانسحاب ترامب مما يُسمى بخطة العمل المشتركة الشاملة، والمعروفة بالاتفاق النووي بين إيران ومجموعة السداسية الدولية، لم يجعلها تتخذ قراراً متسرعاً مماثلاً، بل قررت أن تدخل في مباحثات مع الأطراف الأوروبية لتحصل على ضمانات لحصد الثمار الاقتصادية من الاتفاق، وهي تعلم أن هذه الأطراف تريد البقاء في الاتفاق لتضمن استمرار تقييد النشاط النووي وعدم تضييع جهد سنوات من المباحثات، وفي الوقت نفسه كلّف المرشد مؤسسة الطاقة الذرية بتجهيز أرضيات لاستئناف النشاط النووي كخطوة ردع.

كما أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بعد صدور قرار ترامب عن استراتيجية جديدة إزاء طهران، واضعاً أمامها 12 شرطاً، رد عليها خامنئي بصرامة، وبشروط لأوروبا التي دعاها لكسر صمتها وإدانة واشنطن عملياً، وهو ما حصل، لكنه اشترط كذلك عدم الخلط بين الملف النووي والملفين الصاروخي والإقليمي، ليدور الحديث بعد ذلك عن احتمال عقد مباحثات إيرانية أميركية، بعد توجيه دعوة لإيران من قِبل الرئيس الأميركي لتفاوض اعتبر أنه غير مشروط، ورأت إيران أنه مبطن ومليء بالشروط، ولا يفيدها في المرحلة الراهنة.

لذا تراهن طهران الآن على الإجراءات الأوروبية الرادعة وسبل تفعيل كيان أو قناة اتصال معها تضمن استمرار بيع نفطها وتسلّم عائداتها، وتراهن أيضاً على الإعفاءات الأميركية الممنوحة لثماني دول لتستمر بشراء مصادر الطاقة الإيرانية، على الرغم من كونها مشروطة بتخفيف حجم الواردات وتقليصها تدريجياً. وتعلم إيران تماماً أنه ليس في ذلك ليونة أميركية صريحة تجاهها، وإنما محاولة لمنع تخبّط سوق النفط وارتفاع أسعار الخام بما قد يزيد من مساحة الشرخ بين الولايات المتحدة والدول الأخرى، لا سيما زبائن النفط الإيراني من الآسيويين.
كذلك، تراقب إيران المعطيات التي تغيّر البوصلة الدولية يوماً تلو الآخر، فتدرك أن سياسات ترامب وحلفائه في السعودية قد تصب لصالحها في النهاية، وهو ما يعني عدم عزلها مجدداً، على الرغم من الخسائر الاقتصادية التي ستلحق بها.

تهدئة الشارع
داخلياً، اتخذت إيران إجراءات عدة تحمل في طياتها تعويلاً على تهدئة الشارع الذي احتج أكثر من مرة في العام الحالي على تردي الوضع الاقتصادي. وطاولت التغييرات مناصب حكومية هامة، وركز القضاء على اعتقال محتكرين وفاسدين ومتهمين بقضايا اختلاس، واصفاً إياهم بمكدري الأمن الاقتصادي.

وتدرك السلطات أيضاً أن الأمور لن تتوقف عند هذا الحد، فهناك تهديدات إلكترونية قد تضرب بنى تحتية هامة، وهو ما جاء على لسان النائب نصر الله بجمانفر، والذي قال إن النواب يحضّرون لمشروع يهدف لمواجهة الهجمات الإلكترونية الأميركية المحتملة التي قد تستهدف منشآت حيوية، وهو ما قد يعطّل حياة المواطن الإيراني، بحسب قوله. كما أعلن أن عدداً من البرلمانيين يحضّرون مشروعاً لمعاقبة الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة في فرض حظرها على إيران. ويشمل هذا المشروع مبدئياً ثلاث مواد، ويسمح بالرد على كل طرف يتناغم والمطالب الأميركية الرامية لوقف شراء النفط أو أي من البضائع الإيرانية، كما يكلف الحكومة بنشر قائمة مرة كل ستة أشهر لكشف أسماء هذه الدول المتعاونة مع واشنطن، وتمنع المادة الثالثة منه استيراد أي سلع من الولايات المتحدة أو من المتحالفين معها وإدخالها للبلاد عبر المناطق الحرة أو الجمارك.