تطوع المواطن اللبناني يوسف الملاح في جهاز الدفاع المدني التابع لوزارة الداخلية اللبنانية منذ عام 1989. واليوم يمضي الملاح عامه الخامس والعشرين في الدفاع المدني، غطى خلال تلك المدة مختلف أنواع الكوارث.
لا تطول مدة جلوس يوسف الملاح في مكتبه مديراً لعمليات أحد مراكز الدفاع المدني في العاصمة اللبنانية بيروت، فالمهمات العديدة تطلبه دوماً. يعتذر يوسف عن تحديد موعد لمقابلته قبل يومين على الأقل "فالحريق في منطقة زقاق البلاط يحتاج لتدخل عناصر مركزنا، وكذلك حريق أحد الأحراج قرب بيروت". يجلس الملاح خلال الوقت القصير في مكتبه بين متابعة عمل فريق المركز والتنسيق مع باقي الفرق في كافة المحافظات اللبنانية.
انطلقت مسيرة الملاح كأحد العناصر المتطوعين في جهاز الدفاع المدني أواخر عام 1989، بعد أن تم رفضه لعدة مرات بسبب صغر سنه. جذبته أضواء سيارات الإسعاف خلال الحرب الأهلية، فاختار ركوب تلك السيارات كرجل إنقاذ لا كمقاتل أو مدني جريح: "تعلقت مراراً بالقضبان الحديدية لسيارت الإسعاف والإطفاء خلال خروجها من موقف مستشفى المقاصد الإسلامية في منطقة الطريق الجديدة لأشاهد عمليات الإنقاذ بشكل مباشر. ضربني والدي مراراً بسبب الخطر الذي وضعت نفسي فيه وأنا وحيده الصغير، وعندما لمس إصراري قبل بانضمامي إلى الجهاز، فلبست البدلة الرسمية ولم أخلعها منذ ذلك الحين".
غطى الملاح خلال فترة خدمته التطوعية مختلف أنواع الكوارث الطبيعية والمفتعلة، من الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان إلى انهيارات المباني والحرائق المختلفة. وشارك في إنقاذ مئات الأشخاص "بالتعاون من رفاق وزملاء من كافة المناطق والانتماءات اللبنانية". ويؤكد الملاح على ذلك التعاون الذي لا ينحاز إلى أي مواطن بناءً على الطائفة أو الدين من خلال رفع الرموز الدينية لمختلف الطوائف اللبنانية على مكتبه (المسلمين سنة وشيعة، ودروز، والمسيحيين).
يحفظ أسماء من أنقذهم
ترتفع على أحد حيطان المكتب 40 صورة مختارة لعميات إنقاذ مختلفة، وعلى حائط آخر ترتفع شهادات ودبلومات محلية ودولية حازها الملاح بعد خوض دورات عديدة في أنواع الإنقاذ والإطفاء المختلفة، ويبقى الأهم "الرصيد في قلوب الناس" كما يقول.
ويمتد ذلك الرصيد من شمال لبنان إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، حيث شارك الملاح ويشارك مع فريقه في أعمال الإنقاذ في كافة المناطق "نظراً لخبرتنا المتنوعة بين البحث والإنقاذ، إخماد الحرائق في المباني والأحراج، وتأكيداً على وحدة أبناء جهاز الدفاع المدني في إنقاذ المواطنين من مختلف الانتماءات".
ويتحدث الملاح عن عمليات الإنقاذ مستخدماً لغة الجسد بفعالية، فيطبق راحتي يديه بعنف على بعضهما بعضاً لوصف شدة الانفجار، وينتصب واقفاً للحديث عن تسلم خرطوم المياه قبل التوجه إلى المستودع المشتعل. فبين الملاح والموت قصص عديدة يختصرها بالإشارة إلى النار كعدو "غبي يرشدنا إلى موقعه بالوهج فنقابله بالمياه. أما عمرنا نحن رجال الإنقاذ فتحدده كمية الأوكسيجين المتبقية في القارورة". وكثيراً ما تنتهي قصص الملاح عن مهماته وفي قارورته ما يكفي للتنفس لمدة خمسة دقائق إضافية فقط، "لقد غمزنا الموت مراراً وغمزناه، وفي كل مرة يقودنا واجب الإنقاذ نحو النار لإنقاذ الحياة". وفي كل الحالات لا تغادر الابتسامة الهادئة والمفردات اللطيفة حديثه.
كما تحفظ ذاكرة الملاح لحظات عديدة من حياة مواطنين أنقذهم أو كاد "أذكر جيداً قصة شاب أنقذته من الانتحار مرتين، لكنه أصر على الانتحار في المرة الثالثة عندما نجح في الانتحار اتصل بي مودعاً. في كل مرة كنت أبحث عن مفتاح لإقناعه في العدول عن القفز من أعلى صخرة الروشة على شاطئ بيروت". كما يذكر قصة طفلة تسلق السلم إلى الطابق الثاني لإنقاذها، فرفضت النزول قبل أن يحضر لها دميتها من غرفتها المشتعلة. وبالفعل دخل الملاح وعاد بالدمية "وها هي تحتفظ بها بعد 15 عاماً وقد عرضتها في برنامج تلفزيوني قبل مدة". كما يذكر ضحايا انهيار مبنى "حيث عملنا لمدة 11 ساعة باستخدام المطرقة والإزميل لإخراج مواطن علق تحت الردم، وأحاطته مادة المازوت. أول ما سألني عنه بعد الوصول إليه هو نتيجة مباراة كرة قدم للمنتخب الألماني في اليوم السابق! كان ذلك السؤال مفتاحي لبدء حديث معه في محاولة لطمأنته".
ويخبرنا الملاح "بأن عمل رجل الإنقاذ لا يقتصر على الشق الجسدي بل يمتد ليطال الجانب الإنساني والنفسي لدى الأشخاص العالقين في الخطر. أحاول الإبقاء على التواصل الدائم مع هؤلاء الأشخاص لأنهم يعلموننا الكثير من المعاني الإنسانية، وأهمها ثقافة الصمود، التي مكنتهم إلى جانب عملنا من احتمال ساعات الانتظار الطويلة والصعبة، وتحمل الإصابات في انتظار وصولنا إليهم". وقد أمدت هذه الثقافة عناصر الدفاع المدني الإصرار على المطالبة بتثبيتهم كموظفين في وزارة الداخلية بدل نظام التطوع الحالي.
التثبيت في الوظيفة حق
قاد الملاح عشرات عناصر الدفاع المدني إلى المياه في منطقة الرملة البيضاء في بيروت منتصف العام الماضي، بعد أن تعاهدوا على البقاء في الماء حتى إقرار قانون تثبيتهم في مجلس النواب المنعقد في حينه أو الغرق. وبالفعل تم إقرار القانون ووقعه رئيس الجمهورية ميشال سليمان. فاستحق الملاح التثبيت في جهاز الدفاع المدني، كما استحق عن سابق إصرار لقب رجل الإنقاذ.
اقرأ أيضاً:حوادث السير والهاتف المحمول.. "دونت ميكس"
اقرأ أيضاً:مايا سوراتي.. عَرَفت أن اليوغا هي الحياة