30 أكتوبر 2024
المغرب وثقافة الاحتجاج
أثارت عودة الاحتجاجات الحاشدة إلى الشارع المغربي، على خلفية مقتل شاب بطريقة مأساوية، بعدما فرمته آلة لشفط الأزبال، عندما كان يريد الاحتجاج على مصادرة بضاعته من السمك، أثارت النقاش بين من يؤيدها تعبيراً عن رأي شريحة واسعة من المغاربة الذين يشاركون فيها، للتنفيس عن الغضب الذي يساورهم، وأيضا لرفع مطالبهم، وبين من يعارضونها إما لأسباب أمنية، لأنهم لا يريدون للناس أن يعبروا عن آرائهم بحرية في الشارع، أو بدعوى خشية خروج الاحتجاجات العفوية عن طبيعتها السلمية. وهناك من ذهب إلى حد التحذير من الاحتجاج، مخافة زرع الفتنة داخل المجتمع المغربي، بل وانتشرت عدة رسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مجهولة الهوية، تنبه المواطنين إلى عدم المشاركة في الاحتجاجات درءاً للفتنة!
صدر الاعتراض على الاحتجاجات من وزير الداخلية، وهذا طبيعي في بلدٍ ما زالت فيه عقيدة وزارة الداخلية تقوم على المقاربة الأمنية، قبل كل شيء آخر، ففي البداية هدد الوزير المحتجين بالقول إن وزارته تعرف من يحرّكهم، لكنه سرعان ما تراجع عن تصريحه، بزعم أنه كان "زلة لسان" منه، ولكن بعد أن لم يستجب المحتجون إلى تهديده، ونزلوا بالآلاف إلى الشوارع للاحتجاج.
الاعتراض الذي أثار استهجاناً كثيراً هو الذي صدر عن رئيس الحكومة المعين، عبد الإله بنكيران، رئيس حزب العدالة والتنمية الذي وجه أعضاء حزبه، والمتعاطفين معه، إلى عدم النزول إلى الشارع للاحتجاج. لكنه هو الآخر ما لبث أن خرج ليبرّر بأن توجيهه بعدم الاحتجاج أملاه عليه خوفه من خروج المظاهرات عن طبيعتها السلمية، لكن هذا التبرير لم يصدر إلا بعد أن نزل الآلاف إلى الشوارع، للاحتجاج بطريقة سلمية وبديعة، لم يسبق للمغرب أن شهدها، فقد سار المتظاهرون في مدينة الحسيمة التي شهدت حدث مقتل بائع السمك الذي بات يلقب "شهيد الحكرة" في مسيرةٍ رائعةٍ، حملوا فيها الشموع، وردّدوا الشعارات، وشكلوا سلاسل بشرية لحماية المنشآت العمومية والخاصة في المدينة، وعادوا إلى بيوتهم، بعدما نظفوا الشوارع، والساحة التي اعتصموا فيها حتى ساعة متأخرة من الليل.
للاستهجان الذي أثاره "توجيه" رئيس الحكومة المعين عدة أسباب، تبرّره عند أصحابه. أولا، لأنه صادر عن زعيم الحزب الذي تصدّر الانتخابات التي شهدها المغرب في السابع من
أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وبالتالي، فهو الحزب الذي كان يفترض فيه أن يكون الأقرب إلى نبض الشارع. وثانياً، لأن زعيم الحزب نفسه، وطوال حملته الانتخابية، كان يشتكي من "التحكم"، في إشارة إلى الدولة العميقة التي يعزو إليها عدم قدرته على مزاولته صلاحياته واختصاصاته رئيس حكومة خلال ولايته الأولى المنتهية، وهو نفسه كان يدعو الناس إلى التعبير عن رفضهم "التحكّم"، من خلال المشاركة في الحملات الانتخابية، والنزول إلى التصويت بكثافة، ضد كل من يريد مصادرة إرادتهم. وثالثاً، لأن الحزب الإسلامي الذي يقوده بنكيران، ما كان له ليصل إلى قيادة الحكومة السابقة، وتبوأ الانتخابات، لولا احتجاجات الحراك الشعبي الذي شهده المغرب عام 2011، وهو بمثابة النسخة المغربية مما عرف بـ "الربيع العربي".
سبق "الإخوان المسلمون" في مصر الإسلاميين في المغرب، في "التحذير" من الاحتجاجات، والذي بلغ، أحياناً، حد "التخوين" والاتهام بخدمة "أجندات أجنبية" و"أجندات الفلول".. والكل يتذكّر النقاش الذي احتدم آنذاك بين شرعيتين متنازعتين، "شرعية البرلمان" و"شرعية الميدان". وكان أكبر أخطاء "الإخوان " ترجيحهم "شرعية البرلمان" على حساب "شرعية الميدان" التي بفضلها تمكنوا، أول مرة، من أن يصلوا آنذاك إلى حكم بلدهم. والنتيجة يعرفها الكل، لم ينجح "الإخوان" في كبح "شرعية الميدان"، بقدر ما نجحوا في تأليبها عليهم، وفسحوا الطريق إلى الانقلاب، لاستعمالها ضدهم في 30 يونيو/ حزيران 2013.
طبعا، ليس الواقع المصري هو الواقع المغربي، ففي المغرب تكاد تتكرّر التجارب نفسها، لكن
على الطريقة المغربية التي يمكن وصفها بأنها أكثر مرونةً، حتى عندما يتعلق الأمر بـنوع من "الانقلابات" المرنة التي تتم داخل الكواليس، من قبيل تجريد رئيس الحكومة من صلاحياته، أو تعطيل نفاذ بعض قراراته، أو دفع بعض حلفائه داخل الحكومة نفسها إلى ابتزازه ومعارضته، أو تعقيد مهمة تشكيل حكومته، كما يحدث الآن منذ شهر، حيث مازال رئيس الحكومة المعين عاجزاً عن تشكيل حكومته. ولا يستبعد، في حال فشل رئيس الحكومة المعين في مهمته، أن يعود هو الآخر إلى الشارع للاحتجاج ضد من يريدون سرقة فوز حزبه في الانتخابات، وقد بدأ فعلا بعض أعضاء حزبه ينوهون، على المواقع الاجتماعية، بالاحتجاج حقاً للتعبير وسلطة للضغط، من أجل نيل الحقوق. وفي هذا نوع من الانتقائية الفجة، حتى لا نقول الانتهازية المقيتة.
في كل الشرائع والمواثيق الكونية، يعتبر الاحتجاج حقا أصيلا من حقوق التعبير الأساسية مادام يتم سلمياً. وأكبر الاحتجاجات وأكثرها تشهدها الدول الديمقراطية التي توجد فيها مؤسسات تمثيلية منتخبة، وسلطات حقيقية مستقلة. ومع ذلك، لا يخرج السياسيون في تلك المجتمعات لتبخيس عمل المتظاهرين، أو تهديدهم، أو اتهامهم بـ "التخوين"، وخدمة "الأجندات الأجنبية".
وفي الحالة المغربية، تحول الاحتجاج إلى ثقافة مغربية بامتياز، لا تكاد تخلو مدينة أو قرية مغربية من محتجين. وتشهد البلاد، طوال أيام السنة، احتجاجاتٍ من كل الأصناف، وفي جميع المجالات، وترفع فيها كل أنواع المطالب، ويشارك فيها الآلاف، أغلبها يمرّ في ظروف سلمية، وبعضها يتحول إلى مواجهات مع عناصر الأمن. لكن، لم يسبق أن انفلت الحبل، حتى وإن تُرك على الغارب. فالاحتجاج ليس حقّاً فقط، وإنما هو أيضاً ثقافة تتعلمها الشعوب من ممارستها. وهو، أولاً وأخيراً، سلطة مضادة، وهذا ما يخيف كل أصحاب السلطات القائمة التي تخاف من كل سلطة مضادة.
صدر الاعتراض على الاحتجاجات من وزير الداخلية، وهذا طبيعي في بلدٍ ما زالت فيه عقيدة وزارة الداخلية تقوم على المقاربة الأمنية، قبل كل شيء آخر، ففي البداية هدد الوزير المحتجين بالقول إن وزارته تعرف من يحرّكهم، لكنه سرعان ما تراجع عن تصريحه، بزعم أنه كان "زلة لسان" منه، ولكن بعد أن لم يستجب المحتجون إلى تهديده، ونزلوا بالآلاف إلى الشوارع للاحتجاج.
الاعتراض الذي أثار استهجاناً كثيراً هو الذي صدر عن رئيس الحكومة المعين، عبد الإله بنكيران، رئيس حزب العدالة والتنمية الذي وجه أعضاء حزبه، والمتعاطفين معه، إلى عدم النزول إلى الشارع للاحتجاج. لكنه هو الآخر ما لبث أن خرج ليبرّر بأن توجيهه بعدم الاحتجاج أملاه عليه خوفه من خروج المظاهرات عن طبيعتها السلمية، لكن هذا التبرير لم يصدر إلا بعد أن نزل الآلاف إلى الشوارع، للاحتجاج بطريقة سلمية وبديعة، لم يسبق للمغرب أن شهدها، فقد سار المتظاهرون في مدينة الحسيمة التي شهدت حدث مقتل بائع السمك الذي بات يلقب "شهيد الحكرة" في مسيرةٍ رائعةٍ، حملوا فيها الشموع، وردّدوا الشعارات، وشكلوا سلاسل بشرية لحماية المنشآت العمومية والخاصة في المدينة، وعادوا إلى بيوتهم، بعدما نظفوا الشوارع، والساحة التي اعتصموا فيها حتى ساعة متأخرة من الليل.
للاستهجان الذي أثاره "توجيه" رئيس الحكومة المعين عدة أسباب، تبرّره عند أصحابه. أولا، لأنه صادر عن زعيم الحزب الذي تصدّر الانتخابات التي شهدها المغرب في السابع من
سبق "الإخوان المسلمون" في مصر الإسلاميين في المغرب، في "التحذير" من الاحتجاجات، والذي بلغ، أحياناً، حد "التخوين" والاتهام بخدمة "أجندات أجنبية" و"أجندات الفلول".. والكل يتذكّر النقاش الذي احتدم آنذاك بين شرعيتين متنازعتين، "شرعية البرلمان" و"شرعية الميدان". وكان أكبر أخطاء "الإخوان " ترجيحهم "شرعية البرلمان" على حساب "شرعية الميدان" التي بفضلها تمكنوا، أول مرة، من أن يصلوا آنذاك إلى حكم بلدهم. والنتيجة يعرفها الكل، لم ينجح "الإخوان" في كبح "شرعية الميدان"، بقدر ما نجحوا في تأليبها عليهم، وفسحوا الطريق إلى الانقلاب، لاستعمالها ضدهم في 30 يونيو/ حزيران 2013.
طبعا، ليس الواقع المصري هو الواقع المغربي، ففي المغرب تكاد تتكرّر التجارب نفسها، لكن
في كل الشرائع والمواثيق الكونية، يعتبر الاحتجاج حقا أصيلا من حقوق التعبير الأساسية مادام يتم سلمياً. وأكبر الاحتجاجات وأكثرها تشهدها الدول الديمقراطية التي توجد فيها مؤسسات تمثيلية منتخبة، وسلطات حقيقية مستقلة. ومع ذلك، لا يخرج السياسيون في تلك المجتمعات لتبخيس عمل المتظاهرين، أو تهديدهم، أو اتهامهم بـ "التخوين"، وخدمة "الأجندات الأجنبية".
وفي الحالة المغربية، تحول الاحتجاج إلى ثقافة مغربية بامتياز، لا تكاد تخلو مدينة أو قرية مغربية من محتجين. وتشهد البلاد، طوال أيام السنة، احتجاجاتٍ من كل الأصناف، وفي جميع المجالات، وترفع فيها كل أنواع المطالب، ويشارك فيها الآلاف، أغلبها يمرّ في ظروف سلمية، وبعضها يتحول إلى مواجهات مع عناصر الأمن. لكن، لم يسبق أن انفلت الحبل، حتى وإن تُرك على الغارب. فالاحتجاج ليس حقّاً فقط، وإنما هو أيضاً ثقافة تتعلمها الشعوب من ممارستها. وهو، أولاً وأخيراً، سلطة مضادة، وهذا ما يخيف كل أصحاب السلطات القائمة التي تخاف من كل سلطة مضادة.