30 أكتوبر 2024
المغرب... أرقام صادمة
كشفت مديرية التخطيط في المغرب، وهي هيئة رسمية، الأسبوع الماضي، عن أرقام صادمة تخص سوق الشغل في المغرب، تتعلق بملايين الشباب العاطلين في بلدٍ 75% من ساكنته من الشباب. ومن بين الأرقام المخيفة التي تم الكشف عنها وجود قرابة 1.7 مليون شابة وشاب مغربي، أعمارهم بين 15 و24 عاما "لا يعملون ولا يدرسون ولا يتابعون أي تكوين"، كما جاء في النشرة الصادرة عن هذه الهيئة، ونحو 1.3 مليون من هؤلاء من الإناث.
للتذكير فقط، يقدّر عدد سكان المغرب رسميا بـ 33 مليون نسمة، وبالتالي، يمثل العدد المخيف من الشباب الذين يعيشون على هامش المجتمع، بدون عمل ولا دراسة ولا تكوين، نحو 2% من سكان البلد. وخطورة هذا الرقم، الصادر عن مؤسسة رسمية تحظى أرقامها بمصداقية كبيرة في المغرب وفي الخارج، أن أصحابه كلهم من الشباب المقبلين على الحياة، وغالبيتهم من الإناث، وهو ما يكشف عن الحيف الذي ما زال يلحق بالمرأة المغربية، على الرغم من كل القرارات والقوانين التي تم سنها في السنوات الأخيرة لضمان المساواة والإنصاف بين المرأة والرجل، فالإنصاف والمساواة يبدآن من تمتيع الفرد، ذكرا كان أو أنثى، بحقه في الدراسة، ثم التكوين، حتى تكون فرص التنافس داخل سوق الشغل متساوية بين الجميع.
ولتقريب الصورة أكثر، وطبقا لأرقام صادرة عن المؤسسة الرسمية نفسها، فإن أغلبية الشباب المغربي المتعلم عاطلون عن العمل، أي نحو 854 ألف عاطل من حملة الشهادات، 47% منهم شهاداتهم عالية، أو من خريجي كليات ومعاهد عالية. وإذا كان هؤلاء، بكل شهاداتهم ودبلوماتهم العالية، لم يجدوا شغلا، فما بالك بالفئة الأخرى؟
يجب أن تدق هذه الأرقام المرعبة ناقوس الخطر، لأنها تتحدّث عن "جيش من الاحتياطيين"
صحيح أن المغرب حقق، في السنوات الأخيرة، تقدما ملحوظا على مستوى البنيات التحتية، ونجح في توطين بعض الصناعات المتطورة، مثل صناعة السيارات وألياف الطائرات، ويحقق تطورا ملحوظا على مستوى تطوير حاجياته من الطاقات البديلة. لكن، مقابل كل هذه المكاسب، مازالت السياسات الاجتماعية في المغرب تعاني من عجزٍ كبير في كل القطاعات الحساسة والضرورية لكل تقدم من تعليم وصحة وعمل. ويمكن تلخيص هذا العجز في "غياب عدالة اجتماعية"، وهو ما يجعل ثمار هذه المكاسب لا تصل بالضرورة، وبقدر المساواة والإنصاف نفسه إلى جميع شرائح المجتمع وفئاته.
في بداية استقلاله، ركز المغرب، في مخططاته الاقتصادية على القطاعات الاجتماعية التي كانت تضع الإنسان في صلب اهتمامها. ومنذ بداية ثمانينات القرن الماضي، وبضغط من المؤسسات المالية الدولية المقرضة، اضطرت الدولة إلى التخلي تدريجيا عن سياساتها الاجتماعية، إلى أن وصل الأمر إلى الحالة التي كشفت عنها هذه الأرقام الصادمة. ومع بداية الألفية الجديدة، انتهجت السياسات الاقتصادية في المغرب مقاربة الاستثمار في البنيات التحتية من طرق وموانئ، مراهنة على أن تقود هذه السياسات المجتمع من فوق، بعد أن فشلت السياسات الاجتماعية في النهوض به من تحت. لكن ما حصل أن ما حققته هذه السياسات من ثمارٍ استفادت منه أقليةٌ راكمت الثروات، بينما تركت الأغلبية شبه منسية. ونتج عن هذا اتساع الهوة بين فئة غنية صغيرة وفئة عريضة فقيرة يزداد يوميا احتياطها نتيجة التآكل السريع الذي يصيب الطبقة الوسطى التي كادت أن تختفي في مغرب اليوم.
ساهم في هذا الوضع أيضا تفشي الفساد الذي عجزت كل الحكومات المتعاقبة على حكم
إن أحد أسباب استقرار الدول هو سلمها الاجتماعي، ومثل هذا السلم لا يمكن تحقيقه بالمقاربات الأمنية وحدها، وإنما بالتوزيع العادل للثروة، حتى لا يبقى هناك منسيون يعيشون على هامش المجتمع. وقد كان نظام الرئيس التونسي الهارب، زين العابدين بن علي، يتبنى سياسة أمنية، كانت تعتبر نموذجا في "ضبط" المجتمعات، وكانت حكوماته تقدم أرقاما كاذبة عن "رفاهية الشعب" التونسي. لكن، في عمق المجتمع كان هناك مخاض يتحرك بتلقائية إلى أن استيقظ ذات يوم مثل بركان أعطى "ثورة الياسمين" التي كشفت عن واقع آخر، لا علاقة له بالأرقام الكاذبة لحكومات بن علي.
الإيجابي في الحالة المغربية أن الأرقام المخيفة عن الواقع المغربي اليوم صادرة عن مؤسسة حكومية مغربية رسمية، فهي بمثابة شهادة من الداخل قدّمت تشخيصا ذاتياً وإنذاراً تلقائياً، ويبقى الأهم هو كيفية التجاوب مع هذا الإنذار قبل فوات الأوان.