01 نوفمبر 2024
المعركة المفتعلة بشأن محمد شحرور
غيّب الموت، الأسبوع الماضي، المفكر والباحث السوري، محمد شحرور، فاندلعت معركة حامية على وسائل التواصل الاجتماعي بين مترحّمين على الرجل، مسبغين عليه كل عبارات المديح والإطراء، وآخرين ناقمين عليه، مستشرفين له العذاب والثبور وعظائم الأمور. إنها محطّة أخرى من محطّات المعارك الوهمية التي يبدع فيها كثيرون، ينخرطون فيها، منافحين أو مهاجمين، وجلّهم لا يعرفون عمّا يدافعون أو على ماذا ينقمون. ولعلها من المفارقات أن الخلاف على شحرور، بين رافع له إلى مصاف التنويريين المجدّدين إسلامياً ومن يعدّونه فاسقاً زنديقاً، جاء بعد عامين على خلاف آخر لم يكن أقل حدّة حول الطفلة الفلسطينية، عهد التميمي، وما إذا كان اعتقالها حينئذ تلميعا إسرائيليا لها، أم أنها مناضلة حقيقية. ووصلت السخافة حينها إلى تحليل الصفات الخَلْقِيَّةِ لعهد وشعرها الأشقر، وكأنها مسؤولة على أي هيئة خُلِقَتْ! وفي كل الأحوال، تغييب الموضوعية في مثل هذه القضايا، ويتحصّن كل طرفٍ في خندقه، ولا تعود المعطيات والحقائق تهمه.
لا يسعى هذا المقال إلى تحليل فكر شحرور وتقييمه، ولا أجد غضاضةً أن أقرّ أني لست متابعاً له، وهذا ليس انتقاصاً من الرجل أو تشكيكاً في فكره. بصراحةٍ، لا أعلم عنه الكثير، فعدا عن بعض فيديوهات له اطلعت عليها ليس عندي معلوماتٌ مستفيضةٌ عن أطروحاته. وهنا بيت
القصيد. أزعم أن كثيرين ممن استلّوا سيوفهم في "داحس وغبراء" جديدة حول الرجل لم يقرأوا له، ولا هم مطّلعون على جلَّ نتاجه الفكري، ولم يستوعبوا ما يقول. لقد انقسم هؤلاء حوله إلى صفين: صفّ عدّه تنويرياً مجدّداً في الإسلام من باب تحيّزات شخصية غير واعية، تبحث عن أي أفكار خارج السياق الأصولي العام، والمدارس الفقهية السائدة، ووطأة التشكّل والصياغات التاريخية. وصفٌّ آخر عدّه جرثومة خبيثة، ورجلاً ضحلاً لا يفقه اللغة العربية التي وظفها في محاولة إعادة قراءة النص القرآني، متهماً إياه بأن غرضه الأساس هو نقض عرى الإسلام وإثارة الشكوك حوله. ولأني أقررت أني لم أقرأ للرجل، لن أصدر حكماً قاطعاً على أي الرأيين، وإن كنت أظن أن الحقيقة قد تكون مغايرة لتطرّف كل جهة. فللأسف، من ينطلق من قناعات صلبة، يميناً أو يساراً، فإنه يقوم بذلك من دون مراعاة لأسس موضوعية، وجهد استقصائي معمق.
هذه المعركة المفتعلة بشأن شحرور وأفكاره، وقبل ذلك بشأن آخرين، مثل الراحليْن، الجزائري محمد أركون، والمصري نصر حامد أبو زيد، تندرج في سياق أزمة العقل العربي، والتي يعد التحيز والقناعات المسبقة من أخطر تجلياتها. ينطبق ذلك على الإسلاميين، وعلى العلمانيين، وعلى اليساريين، وعلى الليبراليين. كثيرون منَّا إيديولوجيون في أحكامهم ومواقفهم، وهم غير منصفين. التجديد، بالنسبة لكثيرين فينا، لم يعد قيمةً موضوعية، وإنما صرعةٌ جديدةٌ مفادها الخروج عن المألوف ومصادمة المتعارف عليه، حتى ولو كان ذلك من دون منطق ولا سياقات سليمة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالنص المقدّس وضوابط التعاطي معه. ينطبق الأمر نفسه على كثير من النصيين، فالنص المقدّس بالنسبة لهم ليس فسيح الأفق، مطلقاً متعالياً على التفسيرات البشرية المقدّمة له، بل هو رهينة لها، متماهٍ معها. وبهذا تضيع قيمة التجديد بين تحوله إلى موضةٍ خاوية ومن يرى كل جهد بشري تجديديٍّ وإبداعيٍّ في فضاء النص المقدّس هرطقة وزندقة.
هذه السطور دعوة لنا جميعاً كي نخضع أحكامنا للمعطيات والحقائق، وأن لا نصوغ رأياً من دون تفكّر وبحث ودراسة شاملة معمقة، وأن نفهم أن الإيديولوجيا نسبية وليست حقيقة مطلقة. لا أدعو أحداً إلى التخلّي عن قناعاته وأفكاره، فصاحب هذه السطور نفسه ينتمي لمدرسة فكرية، ولكني لا أؤمن أبداً بالقوالب الجاهزة، وقواعد التكييف الصارمة، بل لا بد من مرونةٍ وأفقٍ واسعٍ وبعض موضوعية. النص المقدّس عند من يؤمنون به لا يخضع للنقاش والمساءلة، ولكن الاجتهاد فيه وفقهه ليس لهما الإطلاقية نفسها، ولا يتمتعان بالحصانة نفسها، ولا ينبغي أن يتماهى النص وقراءته أبداً. أيضاً، ليس كل قراءة جديدة للنص المقدّس اجتهادا وتجديدا
مشروعا، بل قد تكون خاوية وغير منضبطة بمعايير علمية، وقيمتهما الحقيقة في أنها مستفزّة. ما يحسم الجدل هنا هما القراءة والبحث الواعيان والموضوعيان حول كل جديد يعرض لنا، وبعد ذلك يكون حكمنا ذا قيمة أكبر وموضوعية أعلى، بعيداً عن تقريظ متحيّز، أو انتقاص متعسّف.
كلمة أخيرة، ليس الإسلام ديناً هَشّاً، ضعيف المنطق، ضحل الفكرة، ضيق الأفق، عقيم الإبداع، لكي يهزّ أركانه كل حاطب ليل. وأكثر من يسيئون إلى الإسلام هم الذين تراهم ينتفضون كالصرعى يتخبّطون ضد كل من خالف فهمهم له، أو حتى أساء له فعلاً. لقد حرّر الإسلام إرادة الناس، وفجّر طاقاتهم، ووسّع آفاقهم، وأنشأ حضارةً فاخرنا بها الإنسانية يوماً، ونحن قادرون على إعادة بنائها إن أحسنّا فهم وتوظيف ما نملك من منظومة قيمية وحضارية. ومن ثمَّ لا يشرّف الإسلام بعض المرتعدين من كل نظرات جديدة فيه، بناءة أم هدّامة، فالقرآن الكريم الذي سجّل موقف إبليس ومنطقه السقيم مع ربِّ العالمين لن يضيق بما هو دون ذلك كثيراً.
هذه المعركة المفتعلة بشأن شحرور وأفكاره، وقبل ذلك بشأن آخرين، مثل الراحليْن، الجزائري محمد أركون، والمصري نصر حامد أبو زيد، تندرج في سياق أزمة العقل العربي، والتي يعد التحيز والقناعات المسبقة من أخطر تجلياتها. ينطبق ذلك على الإسلاميين، وعلى العلمانيين، وعلى اليساريين، وعلى الليبراليين. كثيرون منَّا إيديولوجيون في أحكامهم ومواقفهم، وهم غير منصفين. التجديد، بالنسبة لكثيرين فينا، لم يعد قيمةً موضوعية، وإنما صرعةٌ جديدةٌ مفادها الخروج عن المألوف ومصادمة المتعارف عليه، حتى ولو كان ذلك من دون منطق ولا سياقات سليمة، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالنص المقدّس وضوابط التعاطي معه. ينطبق الأمر نفسه على كثير من النصيين، فالنص المقدّس بالنسبة لهم ليس فسيح الأفق، مطلقاً متعالياً على التفسيرات البشرية المقدّمة له، بل هو رهينة لها، متماهٍ معها. وبهذا تضيع قيمة التجديد بين تحوله إلى موضةٍ خاوية ومن يرى كل جهد بشري تجديديٍّ وإبداعيٍّ في فضاء النص المقدّس هرطقة وزندقة.
هذه السطور دعوة لنا جميعاً كي نخضع أحكامنا للمعطيات والحقائق، وأن لا نصوغ رأياً من دون تفكّر وبحث ودراسة شاملة معمقة، وأن نفهم أن الإيديولوجيا نسبية وليست حقيقة مطلقة. لا أدعو أحداً إلى التخلّي عن قناعاته وأفكاره، فصاحب هذه السطور نفسه ينتمي لمدرسة فكرية، ولكني لا أؤمن أبداً بالقوالب الجاهزة، وقواعد التكييف الصارمة، بل لا بد من مرونةٍ وأفقٍ واسعٍ وبعض موضوعية. النص المقدّس عند من يؤمنون به لا يخضع للنقاش والمساءلة، ولكن الاجتهاد فيه وفقهه ليس لهما الإطلاقية نفسها، ولا يتمتعان بالحصانة نفسها، ولا ينبغي أن يتماهى النص وقراءته أبداً. أيضاً، ليس كل قراءة جديدة للنص المقدّس اجتهادا وتجديدا
كلمة أخيرة، ليس الإسلام ديناً هَشّاً، ضعيف المنطق، ضحل الفكرة، ضيق الأفق، عقيم الإبداع، لكي يهزّ أركانه كل حاطب ليل. وأكثر من يسيئون إلى الإسلام هم الذين تراهم ينتفضون كالصرعى يتخبّطون ضد كل من خالف فهمهم له، أو حتى أساء له فعلاً. لقد حرّر الإسلام إرادة الناس، وفجّر طاقاتهم، ووسّع آفاقهم، وأنشأ حضارةً فاخرنا بها الإنسانية يوماً، ونحن قادرون على إعادة بنائها إن أحسنّا فهم وتوظيف ما نملك من منظومة قيمية وحضارية. ومن ثمَّ لا يشرّف الإسلام بعض المرتعدين من كل نظرات جديدة فيه، بناءة أم هدّامة، فالقرآن الكريم الذي سجّل موقف إبليس ومنطقه السقيم مع ربِّ العالمين لن يضيق بما هو دون ذلك كثيراً.