المشهد الحزبي في المغرب ... التحول المعوق

15 مايو 2014

مسيرة احتجاجية بالدار البيضاء ضد الحكومة (إبريل 2014 Getty)

+ الخط -
يعترف الفاعلون في المشهد السياسي المغربي، اليوم، بأن تغيرات عديدة لحقت بالعمل السياسي في المغرب، في نهاية القرن الماضي، بعد حدثين بارزين، أولهما يتعلق بحكومة التناوب التوافقي التي ترأسها عبد الرحمن اليوسفي سنة 1998، ونقلت حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من جبهة المعارضة إلى مجال العمل التنفيذي. أما الثاني فيرتبط بنهاية حكم الحسن الثاني وبداية حكم محمد السادس، وقد اتسم هذا الحدث بسماتٍ أدرجته ضمن باب احتمالات التغيير والإصلاح المتداولة في المشهد السياسي المغربي.
ويعترف فاعلون كثيرون في المشهد السياسي المغربي بأن المغرب انخرط، منذ مطلع القرن الجديد، في سلسلة من التغيرات التي شملت النظام السياسي، الأحزاب السياسية، الخيارات الأيديولوجية، وقد حصل ذلك بتفاعلٍ مع مختلف الفاعلين السياسيين، واستوعب، في الآن نفسه، تحولات المجتمع والقيم والثقافة في بلادنا.
يمكن أن نعتبر أن ما حصل يعد مسألة طبيعية، في سياق مقتضيات جريان التاريخ بصورة اعتيادية، حيث يحصل استيعاب مكاسب حركة الإصلاح المتواصلة منذ عقود، ويجري، في الآن نفسه، تجديد النخب، وتتبلور إشكالات جديدة في عالمٍ ما فتئ يتغير في الداخل والخارج. إلا أن التحولات العاصفة التي شكلت علامة بارزة في سنة 2011، ساهمت في منح التغيرات الجارية إيقاعاً أسرع، وأفقاً في التحول السياسي لم يكن مرتقباً.

نتبين في التحولات الجارية معطيات عديدة، تؤكد أن ما حصل ينبئ بوجود كيفياتٍ أخرى في النظر إلى العمل السياسي في المغرب. لكننا نعاين، في الوقت نفسه، وبجانب الإقرار بحصول التغير والتحول، أشكالاً من الرفض لكثير من مظاهر التحول الجارية، حيث تنشأ بين حين وآخر معارك وأزمات، تشي بأن الفاعل السياسي، حتى عندما يعترف بوجود التغيير ويُعلن حُصُولَه، يواصل توظيفه جملة من العناصر والمواقف المحاصرة له، الأمر الذي يكشف أن هناك تناقضاً بين الاعتراف بحصول التغير وعدم القدرة على التخلص في الآن نفسه، من بعض القيم العتيقة لحظات التعامل معه، ومع متطلباته.
نأخذ، مثالاً على ما نحن بصدده، جوانب من التحولات التي يعرفها المشهد الحزبي المغربي، فقد أنتجت المؤتمرات الأخيرة في كل من حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي قيادات جديدة، وتم النظر إلى هذه القيادات من زوايا مختلفة. ولم تنته مؤتمرات الحزبين بانتخاب هذه القيادات، بل ساهمت في بلورة نقاشاتٍ، يفترض أن لا تكبر لتصنع مآزقاً في مسار العمل الحزبي، خصوصاً أن أغلب الفاعلين، في مشهدنا السياسي والحزبي، يعترفون، كما أوضحنا آنفاً، بحصول تحولاتٍ كبيرة في المجتمع، وفي الوعي السياسي المتفاعل داخله، إلا أنهم لا يقرأون علامات الاختلاف في ما بينهم، في إطار تحولاتٍ يقرُّون بحصولها.
ظل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، على سبيل المثال، يشتغل في مؤتمراته بمعايير تحتكم إلى جملةٍ من المبادئ والقيم المرتبطة من جهة، بنضالات ومعارك الحركة الوطنية من الاستعمار وتبعاته، والمحكومة، في الوقت نفسه، بمعارضتها الحكم الفردي، وسعيها الإصلاحي الرامي إلى توطين قيم الإصلاح الديمقراطي في مجتمعنا.
وقد ساهمت تحولات مطلع القرن الجديد، المشار إليها في بداية هذا المقال، كما ساهمت عوامل أخرى تاريخية واجتماعية جديدة، أهمها محصلة انخراط الحزب الفعلي في تدبير الأجهزة التنفيذية، وما ترتب عن ذلك من وعيٍ جديد وقيم جديدة، بل ونخب حاملة هذا الوعي وهذه القيم، ما جعل الحزب ينفتح على أسئلةٍ جديدة، مرتبطةٍ بمؤشرات مهمة في التحول والتغيير. ونستطيع، ونحن نحتكم إلى معايير التاريخ، أن نرى في عناوين التحول الجارية، ما يشير إلى محاولاتٍ في تجاوز السقف القيَمي والمرجعي، الذي صاحب تجربة الاتحاد في العقود الأربعة الماضية، الأمر الذي يستدعي البحث عن سندٍ داعمٍ لشرعية العمل الحزبي الديمقراطي، التي نفترض أن الطريق منفتح أمامها اليوم.
وما يدعونا إلى إبراز هذا الأمر، والدفاع عنه، إيماننا الراسخ بأن العمل الحزبي في المجتمعات الديمقراطية يندرج ضمن بنية الوسائط التي تساهم في تحديث المجتمعات ودمقرطتها، فالأحزاب قاطرة للتحديث، وساهمت في تجاوز قيمٍ أبويةٍ وعشائريةٍ كثيرة، وركّبت في مجتمعاتنا مبادئ سامية في العمل الجماعي، مبادئ مؤسسة على التعاون والتشارك في صوغ البرامج والأهداف.
يواجه حزب الاتحاد الاشتراكي، في نظرنا، في سياق التحولات المجتمعية والسياسية المتواصلة في المغرب منذ 2011، مهمتين مستعجلتين، تتعلق أولاهما بتحيين مرجعيته وضبط مفاصلها الكبرى. وفي إطار هذه المهمة، يكون مطالباً ببلورة قواعد مأسسة حضوره في المشهد السياسي المغربي، بكل ما تقتضيه المأسسة من عقلنةٍ في التدبير والعمل. أما المهمة الثانية، وهي التي نعتقد أن مستقبل الحزب يقوم عليها، فترتبط بالمساعي الهادفة إلى تشكيل قطب اليسار داخل المشهد السياسي المغربي، حيث لم يعد هناك معنى لمزيد من شرذمة اليسار وتفتيته، في زمن تتزايد فيه قوة اليمين المحافظ، وقد أصبحت تخوض اللعبة السياسية بكثير من الماكيافيلية.
إن افتعال معارك صغيرة داخل الفضاء الحزبي، مثلما جرى، أخيراً، في حزب الاتحاد الاشتراكي، وعدم الاهتمام بالأسئلة الأساس المرتبطة بتحولات الراهن، تعكس في العمق ذهول نخب الحزب الحداثية عن متطلبات المرحلة، ولا شك أن الاستمرار في الذهول، وعدم إدراك مقتضيات التحول الحاصلة، سيؤدي، في حال عدم تداركه، إلى النكوص والتراجع.

    
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".