08 نوفمبر 2015
المسيحيون في المشرق العربي مهددون
تهدد المسيحين العرب مخاطر عدة: إفراغ المشرق من الأقليات وهجراتها المتتالية إلى الغرب، وتجفيف دورهم التاريخي الذي اضطلعوا به، وخوف من "سفر خروج" آخر على شاكلة ما حدث مع الأيزيدية في العراق. لسان حالهم اليوم: نحن على مشارف الخطر الوجودي، لا سيما بعدما خسر العراق، وربما سورية، الوجود المسيحي.
وقد كان عدد المسيحيين، عشية الفتح العثماني بلاد الشام ومصر والعراق في سنتي 1516 – 1517، في هذه الديار نحو 16 مليوناً. أما في إحصاءات سنة 2010، وهي تقريبية، فإنّ عدد المسيحيين في هذه الديار لم يتجاوز 17 مليوناً. ومؤكدٌ أنّ عوامل عدة ساهمت في تناقص أعداد المسيحيين في البلاد العربية، في الأربعمئة سنة الأخيرة، وقبلها أيضاً، منها تحوّل مسيحيين إلى الإسلام، بتأثير التفاعل الفكري والعقيدي، أو الاضطهاد أو الهجرة.
واليوم، إذا كان استهداف المسيحيين يعني سيادة الفكر المتطرف والممارسات المتعصبة، فذلك سيساهم في زيادة الهجرة المسيحية التي تعني تفريغ مجتمعات المشرق العربي من المسيحيين، وهذا، في حد ذاته، إعلان عن شح فرص الحرية، لا سيما حرية التعبير وحق الاعتقاد وحق المشاركة السياسية. وتفيد توقعات أنّ عدد المسيحيين في المشرق العربي سينخفض إلى نحو 6 ملايين في سنة 2025، إذا استمرت معدلات الهجرة على حالها.
ففي سورية، بلد المسيحية الأولى والكنائس الأولى والرهبانيات الأولى، تتفاقم هجرة المسيحيين بشكل مأسوي، فيتم تدمير أحيائهم وتهديم كنائسهم وأديرتهم ومدنهم التاريخية، مثل معلولا، وقتل كهنتهم واختطاف أساقفتهم وفرض الحجاب على نسائهم، والجزية على رجالهم، ما يجعل الفرار من هذا الجحيم مخرجاً إجبارياً. فقد أدت أعمال العنف والقتل والدمار التي تعرضت لها سورية، منذ انطلاق ثورة شعبها، في مارس/آذار 2011، إلى تصاعد هجرة المسيحيين، بصورة لم تشهد لها مثيلاً من قبل، وعزّزتها عمليات التهديد والخطف والابتزاز التي أصابت أعداداً منهم وقتل جهات متخفية ومجهولة بعضهم.
كانت النكبة المسيحية الكبرى من نصيب المسيحيين الفلسطينيين الذين دفعوا الثمن غالياً، حيث وقعوا ضحية المخططات الصهيونية، وتخلُّف الأنظمة العربية. فالمسيحيون كانوا يشكلون، قبل موجات الهجرة اليهودية المكثفة إلى فلسطين، نحو 20 % من حجم سكان فلسطين التاريخية. أما الآن فتكاد نسبتهم تصل إلى 9% من سكان الضفة والقطاع. وبيت لحم، التي ولد فيها السيد المسيح، كانت نسبة المسيحيين فيها 85% في عام 1948، في حين لم يعد فيها، الآن، سوى 12% منهم. أما في مدينة القدس التي كان يسكنها 53% من المسيحيين في 1922 فلم يعد فيها، اليوم، من المسيحيين إلا 2% من السكان.
ساهمت موجة التطرف والتعصب والتكفير التي ضربت المنطقة في إجلاء المسيحيين الفلسطينيين وتهجيرهم، متمثلة بوجهيه، إعلان إسرائيل دولة يهودية نقية وتصاعد عدوانها، كما أُعلن قيام الدولة الإسلامية في كل من العراق وسورية "داعش". وبما أنّ إسرائيل ستكون دينية يهودية، فلا مكان للمسيحيين، وحتماً للمسلمين وغيرهم فيها، لأنها تقوم على قاعدتين أصوليتين: أولاهما، فلسطين أرض "الوعد الإلهي". وثانيتهما، أنهم "شعب الله المختار". وهو ما دأبت إسرائيل على العمل وفقاً له، منذ قيامها في 1948، وخصوصاً إزاء المسيحيين، بهدف تفريغ فلسطين منهم، ولا سيما من القدس.
وفي العراق، يكاد المسيحيون أن ينقرضوا، بعدما هاجر نحو 600 ألف مسيحي بين 2003 و2013. وتفيد أحدث التقارير أنّ الموصل، موطن المسيحيين المناذرة الأوائل في العراق، خلت حالياً من المسيحيين.
ويعاني المسيحيون والمسلمون في المشرق من ثلاثة أمور: صعود الأصوليات المتطرفة، والدولة التسلطية، وفظاعة إسرائيل الصهيونية. أما صعود الأصوليات، فقد أدى إلى انهيار المجموعات التضامنية التي عاشت معاً وتصرفت معاً، لأنّ التعصب، هجومياً أم انعزالياً، حال ويحول دون وجود المبادرات المشتركة التي كانت قائمة ضمن العيش المشترك. كما أنّ الدولة الاستبدادية القائمة منذ أربعة عقود وأكثر، ضربت كل حراك سياسي واجتماعي، فجعلت المجتمع لقمة سائغة للأصوليات، ونشرت الفتن بين الناس بتقريب هذه الأقلية وإبعاد تلك. وجاء الاستيلاء الصهيوني، ذو الأبعاد الاستيطانية، فنشر حالة من العجز وانتهاك الكرامة وحقوق الإنسان الأساسية. ومع أنّ كل هذه الظواهر نالت من المسلمين والمسيحيين، على حد سواء، فإنّ المسيحيين شعروا بها أكثر، وتأثروا بها أكثر.
وكشفت الأحداث أوهاماً كثيرة، أهمها وهم الوحدة الوطنية الذي قامت عليه الدولة العربية الحديثة، فمجتمعات لا تزال موغلة في تقليديتها لا يمكن أن تنتج ما يشكل عصب هذه الوحدة التي تظل أهم مقومات الاجتماع السياسي الحديث، بل تعمل، بكل الوسائل، على توظيف بنياتها ما قبل الوطنية (الطائفية والإثنية والقبلية والعشائرية) بغاية بناء وتشكيل هويات فرعية متناحرة وتشكيلها، تقف في وجه الهوية الوطنية التي يُفترض أن تكون جامعة وغنية بثراء روافدها وتعددها، ما يعني الانخراط في تشغيل العصبيات المذهبية التقليدية، بجعلها تخرج عن سياقها ودورها الطبيعيين، وتخدم "السلطوية" التي تعمل كل ما في وسعها على الاحتفاظ بتوجيه موارد السلطة والثروة لخدمة الطائفة أو العصبة أو العائلة الحاكمة، مستفيدة في ذلك من سيطرتها على مختلف مقدَّرات الوطن الاقتصادية والاجتماعية.
وبذلك، تعمل الطائفية، بكل تجلياتها الثقافية والسلوكية، على مجابهة قيم الحداثة والتسامح والعيش المشترك، لأنّ إشاعتها ونشرها يؤدي، بالضرورة، إلى التفكك التدريجي للأسس والمرتكزات التي تقوم الطائفية عليها.
وبصرف النظر عن السيناريوهات المحتملة، يأتي تنامي الحركات الإسلامية المتطرفة ليرسخ هواجس المسيحية المشرقية. فالأسلمة التي نجدها في السياقات المجتمعية والثقافية وحتى السياسية، تجبر المسيحيين في مواطنهم على الانسحاب التدريجي: إما عبر الهجرة، أو عبر التقوقع على الذات، أو عبر الاحتماء بالدين للتصدي للأسلمة المتزايدة، التي تعتبر رد فعل على فشل المشروع السياسي عند الحركات الإسلامية.
وقد كان فشل بناء دولة المواطنة المتساوية، المدنية الديمقراطية التعددية، سبباً حاسماً في إيجاد مناخات من التمييز ضد شرائح أساسية من المواطنين والمكوّنات. ولقد عانى مسيحيو هذه البلدان من أشكال شتى من هذا التمييز، على المستويين، الدستوري والقانوني، أو على مستوى المشاركة والتمثيل السياسيين، أو لجهة تمتعهم بقدر أقل من الحقوق والحريات.
وقد كان عدد المسيحيين، عشية الفتح العثماني بلاد الشام ومصر والعراق في سنتي 1516 – 1517، في هذه الديار نحو 16 مليوناً. أما في إحصاءات سنة 2010، وهي تقريبية، فإنّ عدد المسيحيين في هذه الديار لم يتجاوز 17 مليوناً. ومؤكدٌ أنّ عوامل عدة ساهمت في تناقص أعداد المسيحيين في البلاد العربية، في الأربعمئة سنة الأخيرة، وقبلها أيضاً، منها تحوّل مسيحيين إلى الإسلام، بتأثير التفاعل الفكري والعقيدي، أو الاضطهاد أو الهجرة.
واليوم، إذا كان استهداف المسيحيين يعني سيادة الفكر المتطرف والممارسات المتعصبة، فذلك سيساهم في زيادة الهجرة المسيحية التي تعني تفريغ مجتمعات المشرق العربي من المسيحيين، وهذا، في حد ذاته، إعلان عن شح فرص الحرية، لا سيما حرية التعبير وحق الاعتقاد وحق المشاركة السياسية. وتفيد توقعات أنّ عدد المسيحيين في المشرق العربي سينخفض إلى نحو 6 ملايين في سنة 2025، إذا استمرت معدلات الهجرة على حالها.
ففي سورية، بلد المسيحية الأولى والكنائس الأولى والرهبانيات الأولى، تتفاقم هجرة المسيحيين بشكل مأسوي، فيتم تدمير أحيائهم وتهديم كنائسهم وأديرتهم ومدنهم التاريخية، مثل معلولا، وقتل كهنتهم واختطاف أساقفتهم وفرض الحجاب على نسائهم، والجزية على رجالهم، ما يجعل الفرار من هذا الجحيم مخرجاً إجبارياً. فقد أدت أعمال العنف والقتل والدمار التي تعرضت لها سورية، منذ انطلاق ثورة شعبها، في مارس/آذار 2011، إلى تصاعد هجرة المسيحيين، بصورة لم تشهد لها مثيلاً من قبل، وعزّزتها عمليات التهديد والخطف والابتزاز التي أصابت أعداداً منهم وقتل جهات متخفية ومجهولة بعضهم.
كانت النكبة المسيحية الكبرى من نصيب المسيحيين الفلسطينيين الذين دفعوا الثمن غالياً، حيث وقعوا ضحية المخططات الصهيونية، وتخلُّف الأنظمة العربية. فالمسيحيون كانوا يشكلون، قبل موجات الهجرة اليهودية المكثفة إلى فلسطين، نحو 20 % من حجم سكان فلسطين التاريخية. أما الآن فتكاد نسبتهم تصل إلى 9% من سكان الضفة والقطاع. وبيت لحم، التي ولد فيها السيد المسيح، كانت نسبة المسيحيين فيها 85% في عام 1948، في حين لم يعد فيها، الآن، سوى 12% منهم. أما في مدينة القدس التي كان يسكنها 53% من المسيحيين في 1922 فلم يعد فيها، اليوم، من المسيحيين إلا 2% من السكان.
ساهمت موجة التطرف والتعصب والتكفير التي ضربت المنطقة في إجلاء المسيحيين الفلسطينيين وتهجيرهم، متمثلة بوجهيه، إعلان إسرائيل دولة يهودية نقية وتصاعد عدوانها، كما أُعلن قيام الدولة الإسلامية في كل من العراق وسورية "داعش". وبما أنّ إسرائيل ستكون دينية يهودية، فلا مكان للمسيحيين، وحتماً للمسلمين وغيرهم فيها، لأنها تقوم على قاعدتين أصوليتين: أولاهما، فلسطين أرض "الوعد الإلهي". وثانيتهما، أنهم "شعب الله المختار". وهو ما دأبت إسرائيل على العمل وفقاً له، منذ قيامها في 1948، وخصوصاً إزاء المسيحيين، بهدف تفريغ فلسطين منهم، ولا سيما من القدس.
وفي العراق، يكاد المسيحيون أن ينقرضوا، بعدما هاجر نحو 600 ألف مسيحي بين 2003 و2013. وتفيد أحدث التقارير أنّ الموصل، موطن المسيحيين المناذرة الأوائل في العراق، خلت حالياً من المسيحيين.
ويعاني المسيحيون والمسلمون في المشرق من ثلاثة أمور: صعود الأصوليات المتطرفة، والدولة التسلطية، وفظاعة إسرائيل الصهيونية. أما صعود الأصوليات، فقد أدى إلى انهيار المجموعات التضامنية التي عاشت معاً وتصرفت معاً، لأنّ التعصب، هجومياً أم انعزالياً، حال ويحول دون وجود المبادرات المشتركة التي كانت قائمة ضمن العيش المشترك. كما أنّ الدولة الاستبدادية القائمة منذ أربعة عقود وأكثر، ضربت كل حراك سياسي واجتماعي، فجعلت المجتمع لقمة سائغة للأصوليات، ونشرت الفتن بين الناس بتقريب هذه الأقلية وإبعاد تلك. وجاء الاستيلاء الصهيوني، ذو الأبعاد الاستيطانية، فنشر حالة من العجز وانتهاك الكرامة وحقوق الإنسان الأساسية. ومع أنّ كل هذه الظواهر نالت من المسلمين والمسيحيين، على حد سواء، فإنّ المسيحيين شعروا بها أكثر، وتأثروا بها أكثر.
وكشفت الأحداث أوهاماً كثيرة، أهمها وهم الوحدة الوطنية الذي قامت عليه الدولة العربية الحديثة، فمجتمعات لا تزال موغلة في تقليديتها لا يمكن أن تنتج ما يشكل عصب هذه الوحدة التي تظل أهم مقومات الاجتماع السياسي الحديث، بل تعمل، بكل الوسائل، على توظيف بنياتها ما قبل الوطنية (الطائفية والإثنية والقبلية والعشائرية) بغاية بناء وتشكيل هويات فرعية متناحرة وتشكيلها، تقف في وجه الهوية الوطنية التي يُفترض أن تكون جامعة وغنية بثراء روافدها وتعددها، ما يعني الانخراط في تشغيل العصبيات المذهبية التقليدية، بجعلها تخرج عن سياقها ودورها الطبيعيين، وتخدم "السلطوية" التي تعمل كل ما في وسعها على الاحتفاظ بتوجيه موارد السلطة والثروة لخدمة الطائفة أو العصبة أو العائلة الحاكمة، مستفيدة في ذلك من سيطرتها على مختلف مقدَّرات الوطن الاقتصادية والاجتماعية.
وبذلك، تعمل الطائفية، بكل تجلياتها الثقافية والسلوكية، على مجابهة قيم الحداثة والتسامح والعيش المشترك، لأنّ إشاعتها ونشرها يؤدي، بالضرورة، إلى التفكك التدريجي للأسس والمرتكزات التي تقوم الطائفية عليها.
وبصرف النظر عن السيناريوهات المحتملة، يأتي تنامي الحركات الإسلامية المتطرفة ليرسخ هواجس المسيحية المشرقية. فالأسلمة التي نجدها في السياقات المجتمعية والثقافية وحتى السياسية، تجبر المسيحيين في مواطنهم على الانسحاب التدريجي: إما عبر الهجرة، أو عبر التقوقع على الذات، أو عبر الاحتماء بالدين للتصدي للأسلمة المتزايدة، التي تعتبر رد فعل على فشل المشروع السياسي عند الحركات الإسلامية.
وقد كان فشل بناء دولة المواطنة المتساوية، المدنية الديمقراطية التعددية، سبباً حاسماً في إيجاد مناخات من التمييز ضد شرائح أساسية من المواطنين والمكوّنات. ولقد عانى مسيحيو هذه البلدان من أشكال شتى من هذا التمييز، على المستويين، الدستوري والقانوني، أو على مستوى المشاركة والتمثيل السياسيين، أو لجهة تمتعهم بقدر أقل من الحقوق والحريات.