الحوار الليبي تحت ضغط السلاح

10 أكتوبر 2015
+ الخط -
تعيش ليبيا على وقع أزماتٍ عديدة في ظل عدم وجود سلطة موحِّدة للدولة، وعدم قدرة المؤسسات الحالية على إدارة شؤون البلاد بأسلوب رشيد، يمكن أن ينهي المرحلة الانتقالية المتعثرة حالياً، ما يمكن أن يحوّل ليبيا إلى صومالٍ جديد، نتيجة التناحر القبلي والجهوي، وظهور الاتجاهات الانفصالية، والإرهاب والتهريب والسلاح، وكلها مؤشراتٌ على خطورة الأوضاع وتعدد جوانب الأزمة. مع بروز تقديراتٍ أنّ تعقَّد الصراع الدائر هو نتيجة تضافر عوامل قبلية وجهوية، مع صور تنافس، ظل كامناً لعقود، على الموارد الاقتصادية، مع عدم إغفال حالة التهميش الاقتصادي الذي تعرضت له مناطق الشرق التي يوجد فيها الشق الأكبر من المصادر النفطية.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى استعصاءات الأزمة الليبية التي تحول دون الاتفاق على مساومة سياسية حول نظام حكم يتيح إدارة البلاد بصورة طبيعية، من أهمها الانفلات الأمني وتعدد الجماعات المسلحة، فقد تحولت ليبيا إلى فضاء واسع من الفوضى وغياب القانون، تخترقه جزر أمنية لا تنسيق بينها، وكل منها يهتم بناحيته ويحتفظ بأولويات محلية، وقد ساهم هذا الحال في تدفق طالبي الهجرة إلى أوروبا من أنحاء العالم كافة، وخصوصاً من إفريقيا، ونشوء عصابات تهريب من كل صنف ومافيات تستغل ضعف المهاجرين وترسلهم إلى أوروبا بشروطٍ، تفتقر إلى أبسط العناصر الإنسانية الأولية.
وفي الواقع، تنتشر عشرات الجماعات المقاتلة في ليبيا، وهي من أكبر التحديات للحكومات المتعاقبة منذ سقوط نظام القذافي، وتشكل بالنسبة لأية سلطة في المستقبل عائقاً كبيراً أمام ممارسة مهام الحكم على وجهها الحقيقي. فقد أوجدت هذه الجماعات مصالح مادية وتحالفات سياسية، في السنوات الأربع من وجودها، تجذرت في المجتمع وداخل المؤسسات، وصارت تملي الأوامر وتطاع. وفي المقابل، أنقصت كثيراً من هيبة مؤسسات الدولة الناشئة، وقللت من قيمتها أمام الليبيين والعالم، وحوّلتها إلى مجرد هياكل بلا قدرة.
ويمكن القول إنّ الجماعات المسلحة في ليبيا أربعة أنواع: أولها، جماعات محلية ضيقة الانتشار ترتبط بالقبائل، وهي تضمن أمن أهاليها من هجمات محتملة من أطراف مناوئة، وهي منتشرة في كامل ربوع ليبيا. وثانيها، جماعات تابعة لأشخاص نافذين من الضباط أو نواب في "المؤتمر الوطني"، أو أثرياء تابعين لجماعات سياسية أو قبلية، وهي بالمئات، وتنتشر أيضاً في كل البلاد، وتعكس مصالح هذه الشخصيات والتنظيمات. وهي مجموعات للدفاع عن المصالح وكسب المنافع، في غياب شبه تام لهيبة الدولة، وتستخدم للضغط أيضاً.
وثالثها، جماعات عقائدية وأهمها "أنصار الشريعة" و"مجلس شورى ثوار بنغازي" و"فجر
ليبيا"، وهي مليشيات إسلامية عالية التدريب، ومسلحة بأسلحة ثقيلة وخفيفة. نظامها مركزي، تخضع لدرجة عالية من الانضباط الداخلي، أسسها مقاتلون شاركوا في الثورة على نظام القذافي، وتجمعوا للدفاع عن أنفسهم، وفرض نظام مبني على الشريعة الإسلامية. ورابعها "داعش"، وهو تنظيم دخيل وعابر للحدود، ومرشح لابتلاع بقية المجموعات الإسلامية وضمّها أو قتالها، وكذلك التمدد في مناطق وجود البترول. ويشكل "داعش" أكبر تحدٍّ ليس للسلطات الهشة في ليبيا فحسب، بل ولدول المنطقة والعالم.
وهكذا، تحولت ليبيا إلى ميدان لكل عمل مليشياوي، أو خارج عن القانون. إذ يتحرك فيها مقاتلو "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" بحرية، ويتزودون بالسلاح. كما يتدرب آلاف من منتسبي "أنصار الشريعة" التونسيين والجزائريين وبعض الأوروبيين قبل الرحيل إلى مصر، وإلى سورية عن طريق تركيا أو شمال لبنان، حيث ينخرطون في صفوف جبهة النصرة أو "داعش"، ويعود بعضهم إلى تونس والجزائر، لشن عمليات ضد أجهزة الأمن والقوات المسلحة.
لا يبعث نمط الحياة الذي يراد فرضه في مساحات استحواذ التنظيمات الإرهابية على السلطة والثروة على القلق فقط، لكنه يحيل من تبقوا من السكان غير النازحين إلى رهائن، تتحكم في رقابهم وحرياتهم طقوس موغلة في التخلف والتمييز وهدر كرامة الإنسان.
وفي المقابل، لم يتمكن الليبيون من إنتاج طبقة سياسية جديدة، تستطيع أن تعيد بناء الدولة الليبية على أسس جديدة، تتجاوز كل السلبيات التي تعرضت لها هذه الدولة، في سياق حكم استمر أزيد من أربعين عاماً. ولعل أسباب عدم القدرة على إنجاز تلك المهمة كثيرة ومتعددة، منها التدخلات الخارجية، والهجرة المستمرة للكفاءات، واستهداف المثقفين والمتعلمين وأصحاب الخبرات بحملاتٍ قاسية لإقصائهم، وصلت إلى حد التصفية الجسدية لبعضهم.
وتكشف جولات الحوار المتعددة بين مختلف الأطراف الليبية المتصارعة عن مدى حدة التنافس بين دول شمال إفريقيا ودول الجوار الإقليمي، من أجل التأثير في المشهد الليبي، فقد استضافت مصر والجزائر والمغرب وتونس جولات حوار متعددة، جمعت أطرافاً مختلفة من مكوّنات المجتمع الليبي المنقسم بين حكومتي طرابلس وطبرق. ويُخشى أن يؤدي هذا الاستقطاب الحاد بين هذه الدول إلى تبديد الجهود المبذولة من أجل التوصل إلى صيغة توافقٍ قابلة للتنفيذ من مختلف الأطراف. ولا شك أنّ توحيد الجهود بين الدول الراعية للحوار الليبي، بمن فيها مبعوث الأمم المتحدة، من شأنه أن يسهم في التأثير بطريقة إيجابية في مختلف الأطراف المؤمنة بأهمية الحوار، من أجل التوصل إلى حل سياسي للصراع حول السلطة.
وفي الواقع، ليس في وسع أي من الأطراف في ليبيا تحقيق انتصار بقوة السلاح، وقد بدأت دول العالم تعترف بهذه الحقيقة، وكذلك العاقلون من بين صنَّاع القرار في دول الجوار. هؤلاء يمكنهم مد المقاتلين بالسلاح، لكنهم يخشون التورط في هذه الحرب مباشرة. فإما أن يستمر تعطيل الدولة في ليبيا، ما يعني حرباً أهلية مستمرة بوتيرة منخفضة، لن تلبث أن تتحول إلى حرب شاملة في لحظةٍ ما يصعب تحديدها، أو يتم التوصل إلى تسوية.
المهم، حالياً، تأسيس نظام يمنع عودة الاستبداد، ويضمن حقوق المواطن والحريات والتعددية السياسية، ويحارب القوى المتطرفة التي ترفض الاعتراف بها. ويخطط لانتخاباتٍ تقام على أساس الوحدة الوطنية الراسخة، إذ لا يجوز أن تقود الانتخابات إلى الانقسام.
ليبيا بحاجة إلى ظهور إرادة وطنية حقيقية، لا تنطلق من مسلَّمة منتصر ومهزوم، بل من منطق الشراكة في بناء الوطن للجميع وبالجميع، وبتأسيس خطوات فعلية في الإنصاف والمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، ومحاسبة كل من أخطأ وأجرم، ولا تكون ثمة حصانة لأحد تحت أي مبرر. ولكن، مما يؤسف له أنّ التوافق الذي برز أخيراً في الصخيرات المغربية لم ينسحب على القوى السياسية، سواء في طرابلس (مقر المؤتمر الوطني) أو في طبرق (تستضيف مجلس النواب المعترف به دولياً). وظهرت انقسامات داخل كل من المعسكرين، في أثناء الحوار الذي يرعاه المبعوث الأممي برناردينو ليون.

6DF091C0-8ABB-4DD1-88F5-D95B8AE48D36
عبدالله تركماني

كاتب وباحث سوري في الشؤون الاستراتيجية، دكتوراه في التاريخ المعاصر، نشر سبعة كتب، وشارك في نشر أكثر من عشرين كتاباً جماعياً.