15 ابريل 2017
المستقبل وإعادة ترتيب الماضي
بشير ذياب (تونس)
تقول الأميركية، قريتشن آدمز، "من أجل بناء مستقبل جديد، نحتاج لبناء ماض جديد"، هذه الجدلية بين الماضي والحاضر تظلّ قائمة دائماً، كما يظلّ الحاضر، على رأي الفقهاء، الحاضر الشّاهد على الماضي الغائب، فما نعيشه اليوم لا يمكن، بأي حال، أن نعزله عن حركة الماضي، فهو، بطريقة أو بأخرى، سبباً من أسبابه، أو مآلاً من مآلاته، وما تعوّدناه دائماً هو أن نحاول ترتيب الحاضر، ولم نتعوّد على ترتيب الماضي، حتى في أذهاننا، فالماضي عندنا يمثل كما بالنسبة لكثيرين منّا، "الزمن الجميل" فهو الأيقونة التي نفتقدها فنعتصر ذاكرتنا لنبحث فيها عن مغارة غائرة في الزمن القديم، لنتوارى فيها عن حاضر يؤلمنا، ولا نربط عادة هذا الألم بأسبابه الغائرة في التاريخ، أو في ذلك الزمن الجميل، وكأنّ هذا الحاضر لقيطاً مجهول النسب.
هذا الشعور في حدّ ذاته مرضيّ، علينا أن نتعالج منه، قبل أن نبحث في دفاترنا القديمة عن أسباب وهننا وتخلّفنا وانحطاطنا السياسي والاقتصادي والأخلاقي، فقانون الطبيعة لا يسمح بوجود شيء من لا شيء، ولا يمكن لأمّةٍ تمكّنت من قيادة العالم قرونا أن تتهاوى تلقائياً، وأن تعاني من تبوّل لا إرادي، من دون خلل ينخر مجاريها البولية، فالروائح الكريهة المنبعثة من كلّ القطاعات الحيوية في المجتمعات العربية، والتسميات التي تطلق عليها من إعلام المجاري إلى ثقافة المجاري، إلى سياسة المجاري، يجعلنا نفكّر بجدّية في البحث عن أسباب الخلل الذي طرأ عليها، والذي تسبّب في هذه التسرّبات الكريهة قبل الخوض في طرق علاجها.
سأترك مفردة تحديد زمن الماضي للحاجة، وكي لا نربط أنفسنا بفترة تاريخية ملزمة، فنحن لا نتحدث في الخصوصيات، بل في عموم أمراض الأمة ككل، أو على مستوى أقطارها المتفرّقة، التي لا تختلف تقريباً إلا بمقدار، فقوة الأزمات التي نتعرّض لها في زماننا الحاضر، يمكن أن ندرك لو أحسنّا تشخيصها أنّ قوّة تأثيرها في الرّداءة التي نعيشها مرتبطة إرتباطاً مباشراً بمدى تاريخيتها أو ضربها في القدم، وبالتالي، فإنّ الجرعات التي يجب وصفها للعلاج ستكون قوّتها حتماً بتلك القيمة نفسها. لذلك، كان لزاماً ترتيب الماضي ترتيباً جيداً، وطبقا لطرق علمية، تتماشى مع أدواتنا الفكرية والمجتمعية، بعيداً عن التنظير الأعمى والإسقاطات الثقافوية الحداثوية، وهذا لا يعني أن لا نلتزم بالأدوات الحضارية المتاحة للتشخيص، ولكن علينا أن نطوّعها بما يتلاءم مع معطياتنا التاريخية والثقافية، لا أن نطوّع مخزوننا أو "ركامنا" التاريخي والثقافي، كي تتلاءم معها.
الربيع العربي، أو الثورات العربية، أو الشتاء العربي، أيّا كانت التسميات، وأيّا كانت الأقطار التي تكتوي بنيرانه، لا يمكن أن يكون إلا حاضراً مؤلماً، مهما أراد المبالغون في التفاؤل تصويره بداية النهضة، وقد يكون كذلك، لكنه قد يفتح أيضا على الإنهيار التام، بعد أن كان الوضع قبله ترنّحاً، أو قد يكون سبباً في قتل "الرّجل المريض" الذي كنّا نمنّي النّفس بتعافيه.
الإيجابي الوحيد في ثورات الربيع العربي أنّها أبرزت على السطح كلّ أعراض أمراض الماضي، المجتمعية والإيديولوجية والنفسية... التي كان جسد الأمة المنهك يتألم منها بصمت تحت سياط جلاديه، ما فعلته هذه الثورات أنها جعلتنا نكتشف أنّ معركة الجمل لا تزال رحاها تدور في العراق والشام بمسمّيات أخرى، وجعلتنا نكتشف أنّ ما نفهمه من مصطلح "السّلف" يمكن أن يكون مناقضاً لما يفهمه غيرنا من أبناء جلدتنا، كما جعلنا نسلّم، في النهاية، أنّ الديمقراطية لا يمكن أن تبنى بالوسائل الإعلامية والثقافية والإدارية نفسها التي تشبّعت بقيم الفساد على عهد الدّكتاتوريات، وأنّه لا بد من كنس أمراضها وتنظيفها، قبل أن نوكل لها مهمة البناء الجديد.
في النهاية، أقول، علينا إذا أردنا أن نذهب إلى الأمام، أن نتخفّف من أعباء الماضي، وأن نعترف أنّ تاريخنا وحضارتنا أصبحا ركاماً يعيق سلاسة حركتنا، وأنّ علينا أن نعيد ترتيبها بشكلٍ لا يُفقد المقدّس قداسته، ولا يضفي على غير المقدّس مسحة من القداسة، تمنعنا من الخوض فيه وتشريحه، وأن ندرك أيضا أنّ قداسة النّص لا يمكن أبداً أن تسحب على فهم النص أو تأويله، أيّا كانت القدرة العلمية لصاحب الفهم والتأويل، لأنّها تبقى، في نهاية الأمر، اجتهادا بشريّا يؤخذ منه ويردّ.
هذا الشعور في حدّ ذاته مرضيّ، علينا أن نتعالج منه، قبل أن نبحث في دفاترنا القديمة عن أسباب وهننا وتخلّفنا وانحطاطنا السياسي والاقتصادي والأخلاقي، فقانون الطبيعة لا يسمح بوجود شيء من لا شيء، ولا يمكن لأمّةٍ تمكّنت من قيادة العالم قرونا أن تتهاوى تلقائياً، وأن تعاني من تبوّل لا إرادي، من دون خلل ينخر مجاريها البولية، فالروائح الكريهة المنبعثة من كلّ القطاعات الحيوية في المجتمعات العربية، والتسميات التي تطلق عليها من إعلام المجاري إلى ثقافة المجاري، إلى سياسة المجاري، يجعلنا نفكّر بجدّية في البحث عن أسباب الخلل الذي طرأ عليها، والذي تسبّب في هذه التسرّبات الكريهة قبل الخوض في طرق علاجها.
سأترك مفردة تحديد زمن الماضي للحاجة، وكي لا نربط أنفسنا بفترة تاريخية ملزمة، فنحن لا نتحدث في الخصوصيات، بل في عموم أمراض الأمة ككل، أو على مستوى أقطارها المتفرّقة، التي لا تختلف تقريباً إلا بمقدار، فقوة الأزمات التي نتعرّض لها في زماننا الحاضر، يمكن أن ندرك لو أحسنّا تشخيصها أنّ قوّة تأثيرها في الرّداءة التي نعيشها مرتبطة إرتباطاً مباشراً بمدى تاريخيتها أو ضربها في القدم، وبالتالي، فإنّ الجرعات التي يجب وصفها للعلاج ستكون قوّتها حتماً بتلك القيمة نفسها. لذلك، كان لزاماً ترتيب الماضي ترتيباً جيداً، وطبقا لطرق علمية، تتماشى مع أدواتنا الفكرية والمجتمعية، بعيداً عن التنظير الأعمى والإسقاطات الثقافوية الحداثوية، وهذا لا يعني أن لا نلتزم بالأدوات الحضارية المتاحة للتشخيص، ولكن علينا أن نطوّعها بما يتلاءم مع معطياتنا التاريخية والثقافية، لا أن نطوّع مخزوننا أو "ركامنا" التاريخي والثقافي، كي تتلاءم معها.
الربيع العربي، أو الثورات العربية، أو الشتاء العربي، أيّا كانت التسميات، وأيّا كانت الأقطار التي تكتوي بنيرانه، لا يمكن أن يكون إلا حاضراً مؤلماً، مهما أراد المبالغون في التفاؤل تصويره بداية النهضة، وقد يكون كذلك، لكنه قد يفتح أيضا على الإنهيار التام، بعد أن كان الوضع قبله ترنّحاً، أو قد يكون سبباً في قتل "الرّجل المريض" الذي كنّا نمنّي النّفس بتعافيه.
الإيجابي الوحيد في ثورات الربيع العربي أنّها أبرزت على السطح كلّ أعراض أمراض الماضي، المجتمعية والإيديولوجية والنفسية... التي كان جسد الأمة المنهك يتألم منها بصمت تحت سياط جلاديه، ما فعلته هذه الثورات أنها جعلتنا نكتشف أنّ معركة الجمل لا تزال رحاها تدور في العراق والشام بمسمّيات أخرى، وجعلتنا نكتشف أنّ ما نفهمه من مصطلح "السّلف" يمكن أن يكون مناقضاً لما يفهمه غيرنا من أبناء جلدتنا، كما جعلنا نسلّم، في النهاية، أنّ الديمقراطية لا يمكن أن تبنى بالوسائل الإعلامية والثقافية والإدارية نفسها التي تشبّعت بقيم الفساد على عهد الدّكتاتوريات، وأنّه لا بد من كنس أمراضها وتنظيفها، قبل أن نوكل لها مهمة البناء الجديد.
في النهاية، أقول، علينا إذا أردنا أن نذهب إلى الأمام، أن نتخفّف من أعباء الماضي، وأن نعترف أنّ تاريخنا وحضارتنا أصبحا ركاماً يعيق سلاسة حركتنا، وأنّ علينا أن نعيد ترتيبها بشكلٍ لا يُفقد المقدّس قداسته، ولا يضفي على غير المقدّس مسحة من القداسة، تمنعنا من الخوض فيه وتشريحه، وأن ندرك أيضا أنّ قداسة النّص لا يمكن أبداً أن تسحب على فهم النص أو تأويله، أيّا كانت القدرة العلمية لصاحب الفهم والتأويل، لأنّها تبقى، في نهاية الأمر، اجتهادا بشريّا يؤخذ منه ويردّ.
مقالات أخرى
26 مارس 2017
10 مارس 2017
01 مارس 2017