المرآة

04 ابريل 2015
أسامة دياب / فلسطين
+ الخط -

كان يعبر الزقاق، ولم يكن قد خطر بباله سابقاً متى كانت آخر مرة رأى فيها وجهه في المرآة. ربما كان ذلك قبل ثلاثة عشر عاماً. كما أنه لم يكن هناك ما يدفعه ليتذكّر متى كانت آخر مرة أحسّ فيها بوجهه يتفتق تحت وطأة ضحكة مفاجئة. كذلك لم يكن له أن يذكر بطاقة هويته مطلقاً لو لم يسمع في الراديو إعلاناً يطلب من المواطنين مراجعة الجهات المعنية بهدف استبدال بطاقة الهوية القديمة بأخرى جديدة.

هذا الإعلان جعله يتذكر بأنه منذ وقت طويل كان قد أضاع بطاقة هويته. ضغط على خلايا ذاكرته بإلحاح لكنه لم يفلح في تذكّر أي شيء عن بطاقة هويته. بدأ القلق يتسرب إلى داخله وهو يفتش عن اسمه في زوايا الذاكرة.

فجأةً، نجح في تذكّر ذلك اليوم التاريخي حين ارتدى معطفه الجلدي ودسّ بطاقة هويته في جيبه الداخلي وتوجّه إلى مركز الاقتراع لممارسة حقه في الانتخاب؛ ذلك اليوم التاريخي حين ألقى بورقة مليئة بالأختام والأسماء داخل صندوق خشبي مزيّن بقفل ثقيل وصدئ.

عاد السؤال ليقتحم رأسه من جديد. متى وأين وكيف أضاع بطاقة هويته؟ لماذا لا يستطيع تذكر اسمه؟ ومنذ متى لم يسمع أحداً يناديه به أو بكنيته؟ سريعاً، توجّه إلى مركز تسجيل الأحوال الشخصية لكنه لم يحصل على جواب واضح عدا ثرثرة الموظف حول القوانين والنظام. عاد إلى المنزل، هرع في اتجاه خزانة الملابس ودسّ يده في الجيب الداخلي للمعطف الجلدي، لكنها كانت فارغة. وفي هذه اللحظة، تذكّر جملة الموظف الأخيرة بأنه لا بد من إثبات ما، أن اسمه هو فلان بن فلان، وشهود على ذلك من أهل الحي.

انحنى نحو طاولته الخشبية واستلّ قلماً فرنسياً قديماً وورقة، وخرج إلى الحي لإثبات هويته. قصد البقّال الذي أكّد له بأنه لا يتذكر اسمه أو حتى شكله. عرج على مغسلة الثياب حيث كان يغسل ويكوي بدلته وقميصه في نهاية كل عام استعداداً لاستقبال يوم النوروز. حاول أن يذكّر صاحب المغسلة بكل هذه التفاصيل وبأنه كان يستلم إشعاراً ملوناً منه مدوّن عليه اسمه ونوع الملابس وتاريخ التسليم والاستلام. بيد أن جواب صاحب المغسلة كان ابتسامة خافتة قبل أن يواصل عمله بشكل اعتيادي.

جال في الحي على الخبّاز وغيره من أصحاب المهن وبيديه تلك الورقة التي كان قد انتزعها من دفتر لا يعرف لماذا يحتفظ به، لكن لا جواب لدى أحدٍ منهم ولو بكلمة واحدة. عاد إلى بيته ووقف أمام نافذة الغرفة وعصر دماغه، لكنه لم يتذكّر أي شيء يمكن التعويل عليه. بدأ يتساءل في قراراة نفسه لماذا لا يذهب إلى موظف الأرشيف في الأحوال الشخصية ويحاول رشوته كي يعثر له على طرف خيط له علاقة ببطاقة هويته.

كان الوقت بعد الغداء بقليل، تلك الساعة المخصّصة لشرب الشاي، حين دلف إلى غرفة الرجل العجوز الذي يدخن سيجاراً رخيصاً ولديه شقّ واضح في إحدى شفتيه مزيّن بهالة صفراء. لم تمض سوى ثوان قليلة قبل أن يشمّر العجوز عن ساعديه ويدخل قبو الأرشيف ويبدأ التدقيق في ملفات الأرشيف المكتوبة بخط صغير. وبحركة خاطفة، نقل سيجاره من الجانب الأيسر من فمه إلى جانبه الأيمن، وسأل:

- ما هي كنيتك؟

- أنا لم أقل شيئاً بعد

- بلى، ربما ذكرت ذلك في المطبخ لكنني أنسى بسرعة، أعتذر، ما هي كنيتك؟

- كلا، كلا، لم أقل شيئاً في المطبخ. اسمعني جيداً. أولاً أعتذر منك لأنني لم أشرح لك القضية بعد. مشكلتي أنني أضعت بطاقة هويتي ولا أتذكر اسمي أو كنيتي. حتى أنني لا أذكر متى كانت آخر مرة نادى عليّ أحدهم باسمي، لكني أعتقد بأنه يمكننا التوصل إلى اتفاق بهذا الخصوص كي يكون لي بطاقة هوية جديدة.
عدّل رجل الأرشيف نظارته وأطفأ سيجاره:

- طبعاً، طبعاً، هناك حل، ثمة خيارات

- ما هي بالله عليك؟

- هناك خيارات لكنها قد تكون مكلفة قليلاً. أعرف رجلاً ضالعاً في حل مثل هذه القضايا، يمكنني أن أعرّفك إليه، لكن عليك أن تتخذ قراراً الآن، قبل حلول المساء وهبوط العتمة.

كان مركز الأحوال الشخصية يغلق أبوابه حين انعطف الرجلان ودلفا إلى شارع جانبي ينتهي بشارع رئيسي. وهناك استقلا الحافلة في اتجاه منطقة بدا رجل الأرشيف وكأنه يعرف بالتفصيل كل أزقتها وطرقاتها الضيقة والحلزونية.

وصلا إلى دكان طولي أشبه بغمد خنجر عتيق، وعلى الفور تعرّف الرجل الغارق في عباءته إلى رجل الأرشيف الذي دخل الدكان وعبر الكثير من البضائع المكدسة على الأرض. لم يقل صاحب العباءة كلمة واحدة، بل توجّه إلى آخر الممر المعتم وأزاح ستارة جلدية قديمة وأخرج صندوقاً مليئاً ببطاقات الهوية وراح ينظر حوله ويهمس:

- قل لي الآن ماذا تريد أن تصبح، ملكاً أم متسولاً؟ لدي كل الخيارات لكنها بأسعار متفاوتة. طبعاً لا بد لخيارك أن يتناسب وهيئتك. البعض يغمض عينه ويختار كما لو أنه يسحب ورقة يانصيب. ماذا تحب أن تكون، وأين تريد أن تولد، وفي أي عام؟ ماذا تريد أن تكون مهنتك وكيف تريد للمجتمع أن يعاملك؟ قل لي، كل شئ موجود لدي. هل تريد هوية أمير أم تاجر حديد؟ ما رأيك بصاحب معرض سيارات؟ لا تقلق، كل الخيارات موجودة. انظر هنا، هذه المجموعة من بطاقات الهوية التي تحمل علامة الضرب خاصة وفريدة، وهذه مخصصة لكل من يبحث عن تراخيص خاصة بالنشر أو العمل الإذاعي. أها، أها، لقد نسيت ماذا تريد أن يكون اسمك، حسن؟ حسين؟ بوزرجمهر؟ أم أنك تفضل الأسماء الواردة في الشاهنامة؟ ماذا تريد؟ هذه كلها خيارات مفتوحة.

- المعذرة، هل لك أن تعثر لي على بطاقة هوية لرجل ميت، أقصد أن يكون قد مات منذ زمن. هل هذا متوفر؟

- طبعاً، طبعاً، متوفر ولحسن حظك سعره أقل

- أشكرك
حين غادر رجلا الأرشيف وصاحب الذاكرة الضعيفة الدكان، كان صاحب العباءة يسعل بشكل مريب ويسرع في إنزال الستارة الجلدية. ورويداً رويداً، انتقل السعال ليصيب شخصين يقفان عند باب الدكان الطولي المعتم، المحروم من الكهرباء. كان ذو الذاكرة الضعيفة يدخل الزقاق المؤدي إلى بيته حين شعر بحاجة إلى الضحك وتذكّر بأنه ربما منذ ثلاثة عشر عاماً لم يضحك.

غزت وجهه ابتسامة شاذة وراحت تكبر وتتحول إلى ضحكة عنيفة. شعر بأن فمه يتمزّق وأسنانه تغادر مكانها وتتساقط لتتجمع قرب قدميه. وتدريجياً، شعر بعظامه تنهار وأظفاره تخرج من لحم أصابعه. فكّر بعمق بأن وقته قد حان. أسرع في المشي وكلّه أمل أن يصل إلى بيته ويدخل غرفته ليجلس بجانب المدفأة وينظر إلى وجهه في المرآة للمرة الأخيرة.


* قاص إيراني ولد عام 1940 في خراسان، شمال شرق إيران. في صباه، عمل في تصليح الأحذية ومارس مهنة الحلاقة وكان عاملاً في الحقول والمعامل الخاصة بالطوب. نشر أولى قصصه حين كان في العشرين من عمره، ومنذ ذلك الوقت، تفرّغ للكتابة والعمل في المجلات والدوريات الأدبية. لديه أكثر من 12 مجموعة قصصية ورواية، أشهرها "كليدر" التي تُعتبر بأجزائها التسعة أضخم رواية في تاريخ الأدب الفارسي المعاصر.


** ترجمة عن الفارسية: عبد القادر فايز

دلالات
المساهمون