المؤسسات الثقافية العالمية توصد أبوابها أمام ملايين السعودية

20 مارس 2019
رفعت الحظر عن السينما في إبريل (فايز نورالدين/فرانس برس)
+ الخط -
في إبريل/نيسان الماضي، فتحت المؤسسات الثقافية العالمية أذرعها لولي العهد السعودي، محمد بن سلمان؛ إذ بعد حظر دام أربعة عقود، افتتحت المملكة العربية السعودية دار العرض السينمائي الأول فيها، وأعلنت عن البدء بتطوير قطاع الترفيه عامة، ما أغرى الشركات للاستثمار في سوق قوامها أكثر من ثلاثين مليون شخص، معظمهم من الشباب ذوي التعليم العالي والاطلاع التكنولوجي الواسع والمحرومين من خيارات الترفيه.

خلال الشهر نفسه، زار محمد بن سلمان الولايات المتحدة الأميركية. فرشت هوليوود سجادها الأحمر له، ونظم مسؤولو استديوهات ضخمة وأباطرة في مجال الإعلام والترفيه الحفلات والموائد على شرفه، وبينهم روبرت مردوخ (إمبراطور الإعلام الأسترالي الأميركي) والمنتج بريان غرايزر، والممثل دواين جونسون الملقب بـ "ذا روك".

وتزامناً مع الزيارة، أعلن مسؤولون سعوديون، من فندق "فور سيزونز" في بيفرلي هيلز، عن صفقات ضخمة في قطاع الترفيه، بينها خطط لاستقدام "سيرك دو سولاي" و"تجربة مارفل" و "ديزني أون آيس" إلى البلاد.



بعد ستة أشهر، اغتيل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في مدينة إسطنبول التركية. ووجهت تقارير تركية أصابع الاتهام إلى ولي العهد ومستشاريه المقربين في التورط في الجريمة التي أثارت ردود فعل حادّة حول العالم.

على الرغم من قيمها الليبرالية ظاهرياً، إلا أن صناعة الترفيه عامة، والأميركية خاصة، تغاضتا سابقاً عن إساءات سياسية وانتهاكات في مجال حقوق الإنسان، سعياً وراء أسواق جديدة واستثمارات عالية. لكن الوضع هذه المرة كان مختلفاً. فخاشقجي في النهاية فرد في "النخبة المثقفة في واشنطن"، وكاتب في إحدى أهم الصحف العالمية (واشنطن بوست). لذا، كان الضغط مضاعفاً على روّاد القطاع الذي سارع إلى النأي بنفسها عن المملكة، لحفظ ماء الوجه أمام الرأي العام الغاضب.

البداية كانت في "مؤتمر دافوس" الذي عقد خلال الشهر الذي اغتيل فيه خاشقجي نفسه. وتحت الضغوط الحقوقية والمطالبات الشعبية، أعلنت مؤسسات عدة إعلامية وترفيهية عن انسحابها من المؤتمر الاقتصادي الضخم، وأبرزها "فياكوم" و"إس تي إكس إنترتينمت" و"لوس أنجليس تايمز" و"نيويورك تايمز" و"سي إن إن" و"بلومبيرغ" وغيرها.

وبرزت بعض المواقف الفردية، فانسحب الممثل الاسكتلندي، جيرارد باتلر، من رحلة ترويجية إلى العاصمة الرياض، لحضور العرض الأول لفيلمه الجديد "هانتر كيلر" Hunter Killer قبل تأكيد عملية الاغتيال.

وازدادت الضغوط على وكالة المواهب الهوليوودية "إنديفور" التي عبدت الطريق أمام الاستثمار السعودي في عالم الترفيه الأميركي. بعد الجريمة بأيام، قال الرئيس التنفيذي فيها، آرييل إيمانويل، إن التقارير حول الصحافي السعودي "مقلقة للغاية". ونقلت حينها تقارير إعلامية متعددة أن الوكالة تسعى إلى الانفصال عن المملكة العربية السعودية، علماً أنهما تفاوضتا، مطلع عام 2018، على استثمار قيمته على الأقل 400 مليون دولار أميركي، مقابل حصة 10 في المائة من إجمالي الأسهم في الشركة، ومقرها بيفرلي هيلز.

لكن "إنديفور" احتاجت خمسة أشهر للخلاص من قبضة المملكة العربية السعودية؛ فأعلنت في الأسبوع الأول من مارس/آذار الحالي عن إعادة 400 مليون دولار أميركي إلى "صندوق الاستثمارات العامة السعودية"، وفسخ عقدها مع المملكة.


فسخت "إنديفور" عقدها مع المملكة العربية السعودية (نيلسون برنارد/Getty)

كما أفادت "رويترز" سابقاً بأن "صندوق الاستثمارات العامة السعودية" يتطلع إلى الاستحواذ على أسهم قيمتها 700 ملايين دولار أميركي في شركة "ليجيندري إنترتينمنت"، لكنه يواجه مقاومة من المسؤولين التنفيذيين فيها.

وبعد المعوقات التي واجهت طموحات السعودية في عالم الترفيه في هوليوود، توجهت نحو المراكز الثقافية الأوروبية التي قد تكون أكثر سلاسة، لكن تبين أن رهانات المملكة كانت خاطئة في مواقف عدة. فخطتها للاستثمار في دار الأوبرا الإيطالية "لا سكالا" والحصول على مقعد في مجلس إدارتها قوبلت بالرفض والانتقادات. وأعلنت الدار، يوم الإثنين، عن إعادة استثمارات قيمتها ثلاثة ملايين يورو (3.4 ملايين دولار أميركي) إلى المملكة العربية السعودية.

أعادت "لا سكالا" 3.4 ملايين دولار أميركي إلى السعودية (Getty)

وقال رئيس بلدية ميلانو، جوزيبي سالا، وهو عضو في مجلس إدارة دار "لا سكالا"، إن المبلغ المذكور كان جزءاً من خطة استثمار قيمتها 15 مليون يورو، ومدتها خمس سنوات، مع وزارة الثقافة السعودية، وقد وضع في حساب الدار المصرفي من دون موافقتها. وأضاف سالا: "قررنا بالإجماع إعادة الأموال"، بعد اجتماع عقد أول من أمس لاتخاذ قرار نهائي بشأن التمويل السعودي، وفق ما نقلته الصحافة المحلية.

في المقابل، رفض سالا استبعاد إجراء محادثات مستقبلية مع المملكة العربية السعودية. وقال إن جولة مخططة لأوركسترا "لا سكالا" في 2020 ستمضي كما هو مخطط لها.

وكان نائب رئيس الوزراء الإيطالي ووزير الداخلية، ماتيو سالفيني، دعا دار "لا سكالا"، الأسبوع الماضي، إلى رفض الاستثمار السعودي. كما طالب حاكم منطقة لومبارديا، خلال نهاية الأسبوع، بعزل المدير التنفيذي والمسؤول الفني في "لا سكالا"، النمساوي ألكسندر بيريرا الذي زار السعودية للتخطيط لإنشاء دار أوبرا هناك، وروّج للصفقة.

وللمفارقة، تحتل إيطاليا المرتبة التاسعة في قائمة أضخم شركاء المملكة تجارياً، وفقاً لموقع السفارة السعودية الإلكتروني. وفي حين قال رئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبي كونتي، في مؤتمره الصحافي نهاية عام 2018، إن إيطاليا تخطط لتعليق مبيعات الأسلحة إلى السعودية، لم يتخذ أي إجراء إلى الآن.



يُذكر أن الأمير بدر بن عبد الله تصدّر عناوين الأخبار العربية والعالمية، بعدما اشترى لوحة "مخلّص العالم" لليوناردو دافينشي بـ 450 مليون دولار أميركي، نيابة عن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وفق تقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية في ديسمبر/كانون الأول عام 2017.

شِبه العزلة الذي خلفه انسحاب مؤسسات ثقافية مرموقة لا يعني إبعاد السعودية نهائياً عن المشهد الثقافي؛ فأوبرا باريس ملتزمة بصفقاتها معها. والشهر الماضي، وقع رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه تركي بن عبد المحسن آل الشيخ، في العاصمة البريطانية لندن، عدداً من مذكرات التفاهم بين الهيئة ومجموعة من الجهات، لـ "إثراء وتنويع المحتوى الترفيهي". وهو ما يطرح علامات استفهام حول مدى استعداد الدول الغربية للتنازل عن سيل الأموال السعودي مقابل الحفاظ على صورتها كرائدة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، خصوصاً أنّ قرارات رفض الاتفاقيات الثقافية والفنية يقابلها انفتاح في مجالات أخرى ربما أكثر خطورة، كتجارة الأسلحة.
 
المساهمون