القراءة وحدها لا تكفي

11 مارس 2018
+ الخط -
القراءة هي المادة الأساسية التي يتغذّى عليها العقل، وينمو عن طريقها الفكر، ويثرى من خلالها الوجدان، هي مولدة الأفكار، ومحسنة الأطوار، كلما شربت من معينها، زاد وزن عقلك، وكلما اغترفت من كنوزها، زاد غنى نفسك، كل هذا يحدث إذا ما أحسنت اختيار ما تقرأ، وهداك الله إلى ما ينفع من الكتب، فالكتب كأي شيء في دنيا الناس منها الغث ومنها السمين، وفيها ما يستقبله العقل فيسمو، ومن بينها ما ينزل على العقل فيهوي به إلى أسفل سافلين، فيأتي الداء مما يظن الإنسان أنه الترياق والدواء.

وهذا الأمر يخفى على كثير من الناس، لا سيما المبتدئ في مضمار القراءة، فالناس، خصوصاً الشباب، يميلون إلى تصديق كل ما كتب في كتاب، ويرون في كل ما خط بين دفتي كتاب حقاً مطلقاً لا يقبل المناقشة، فالشباب الصغير لا يملك الحاسة النقدية، لأن هذه الخبرة لا تأتي إلا من خلال الدربة والتجربة والاختبار، وكثرة التقلب بين العقول والأفكار، فكم من عقول تناوشتها أعاصير الفكر، لمجرد أن حكم عليها الحظ السيئ بالوقوع ضحية لكتاب مؤلفه فاسد المعتقد، مختلط العقل، وكل بضاعته فيه أنه يحسن تنميق الكلام، والتدجيل بالحروف والكلمات، هذا من جانب.


ومن جانب آخر، فكم قرأت يا صديقي من كتب قيمة، أفكارها نيرة، ولكنها لم تلبث في رأسك إلا اليسير من الأيام، وإذا حاولت أن تصوغ ما خرجت به من الكتاب، تذهب كل محاولاتك أدراج الرياح، لا نستطيع أن ننكر هنا أن محتويات الكتاب الذي نسيت بعض أو كل أفكاره لم تندثر، وأن وقتك لم يضع، بل إن ما ناقشته مع كتابك النافع من أفكار، ذهب إلى داخل عقلك ووجدانك، وذاب داخل نفسك كما يذوب الطعام والشراب داخل عروق الجسد.

لكننا نريد لأفكارنا التي نستخلصها من الكتب النافعة أن تترسّخ داخل أذهاننا، وأن تشكّل وحدات متجانسة نستطيع استدعاءها وقتما نشاء، لكي نحاجج بها ونذب عن معتقداتنا، التي اكتسبناها من تراكم الكتب التي قرأناها، وحتى نستطيع نشر ما نؤمن به من أفكار وقضايا.

نحن هنا أمام غايتين نريد إدراكهما، الأولى: أن يقدّم أصحاب الخبرة والدراية في مجال القراءة والاطلاع عصارة أفكارهم لشباب القراء، حتى لا يتركوهم عرضة للتيارات الفاسدة، وينمّوا فيهم الحاسة النقدية التي تجعلهم يستفيدون من كل ما يقع تحت أيديهم من الكتب، بدون مصادرة لحريتهم في اختيار ما يقرأون، أو حتى إشعارهم بالوصاية على عقولهم الشابة الفتية التي تميل إلى الحرية، فنحن في نهاية المطاف نريد عقولاً حرة تستطيع التمييز بوعي كامل بين الخير والشر والغث والسمين من الأفكار كما أسلفنا القول.

والثانية: أن يتثبّت القارئ مما قرأ من كتب، ويستطيع الأخذ بناصية الأفكار التي حوتها الكتب التي قرأها، ولا تذوب تلك الأفكار في ذاكرته، بل تكون الأفكار متمايزة ومرتّبة داخل عقله، فكم من شخص تجد أفكاره مرتبة وحينما يتكلم في فكرة تجده يتذكر بدقة أين قرأها وما التفاصيل التي حوتها صفحات الكتاب التي قرأها فيه.

وهاتان الغايتان نستطيع إدراكهما بوسيلة واحدة ألا وهي النقاش المنظّم بين القراء، وقد يتخذ هذا النقاش أي صورة، فقد يظهر في صورة صالون أدبي - كصالون مي زيادة وعباس العقاد - يناقش كتاباً أو موضوعاً بصورة دورية، وهذه الوسيلة كانت منتشرة في مصر مثلاً في بداية القرن السابق، وأنتجت لنا باقة من ألمع نجوم الفكر والأدب، وقد يتخذ هذا النقاش صورة مجموعة على "فيسبوك" أو أي وسيلة تواصل أخرى تستفيد من التكنولوجيا الاستفادة المثلى.

فاجترار الأفكار داخل هذه النقاشات يؤدي إلى استخراج مكنونات ومقاصد المبدعين من كتبهم، والاستماع إلى وجهات نظر مختلفة حول الكتاب الواحد، ما يولد الأفكار ويكسوها صوراً مختلفة عن وجهة النظر الأحادية للقارئ الواحد، الأمر الذي يضاعف من فائدة القراءة، فالقراءة وحدها لا تكفي.
E54E1B2B-FB7D-42B9-BEF7-A4E8C4802534
علي خيري

كاتب ومحام مصري أكتب في عدد من المواقع العربية وغالبا ما أسبح بقلمي ضد التيار.

مدونات أخرى