الطَّائرُ خفيفاً مع العصافير

28 يناير 2016
يمشي متوازناً في الصَّيف مرتبكاً في شتاء الوحلِ (فيسبوك)
+ الخط -
لم يقتُلْهُ سوى الحبّ، كانَ كلُّ شيءٍ مُعَدَّاً لهذا الرّحيل المدهش.. الفقرُ والأصدقاء القليلون في المدينةِ والحربُ والقبو الملاذ الآمن الذي سمّيْتُهُ قبْوَ المحبَّة، وحين كان يقطُنُه فاضَ أكثرَ من مرّة فطافَتْ عُلَبُ السّجائر الوطنيّة "الحمراء القصيرة" وأشياء البيت من حول سريره ..


يمشي متوازناً في الصَّيف مرتبكاً في شتاء الوحلِ مترنّحا مثلَ طائر البطريق، نعود من سهرة فايز العبّاس إلى البيت فنشتري الخبزَ السَّاخنَ من الفرن القريب، خبزَ كفاف الحياة، ثمّ نمضي في الحواري هكذا هكذا خفيفينِ ولا سجائر لديه فأعاقبُهُ بالبخلِ ..

لن تدخّن يا أبا عبدو حتَّى يرقَّ قلبي الحجرُ عليك .. ثمَّ نضحك. في جلسة الشَّاي الأثيرة يقول في حديث الشّجون: رحم الله ناجي العلي كان يقول: إذا الشَّعبُ يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيبَ طويلُ العمر .. ويبكي حين نستمع لدرويش، حين يتحدّث عن القوافي التي تسيل كالنّجوم على عباءة العربيّ، يبكي الزّمان الذي مضى بدموع الرّجال العزيزة، يبكي أطفاله وزوجتَه الذين قُتِلُوا جميعاً في موسكو حتَّى أُصيبَ بالشّلل وفقدان الذّاكرة المؤقّت، ولكنّه يتذكّر ما يريدُ ويبكي.

- ما كلُّ فتات الخبز هذا تحتَ الدّرج يا طَلْعَت؟ْ
- العصافير يا صدّام تأتي كلّ صباح لتشرب الماء المنسكب من الحنفيّة المعطّلة، فأُحبّ أن تأكل أيضاً "خطيَّة" لم يكن لديه حين عاد مشلولاً سوى أمّه ثمّ ماتَتْ، ولم يبقَ سوى ثُلّة قليلةٍ من الأصدقاء الذين هجروا البلاد تحتَ ذرائعَ مختلفةٍ تبدأ بالحرب ولا تنتهي، ولم يكن لديه بيتٌ متكاملٌ ستُّ كراسٍ وبضعُ مخدّاتٍ وحصير وسُجّادتان وسرير وخزانة ثياب .. أعطى المخدّات والحصير والسّجّادتين لعائلة نازحة من دير الزّور، ولم يكن لديه هاجس الموت في صخبٍ، كان يحبُّ الهدوء وكان يحبّ فؤاد سالم ويحزن على موتِه وحيداً وعلى السّيّاب ومحمود درويش وغسّان كنفاني وناجي العلي ويقول: أعوذ بالله من كلمة "آني/ أنا" .. لذا كان يحبُّ مظفّر النّواب .. و"مو حزن لكن حزين .. وتزوّدَ قبلَ الرّبع الخالي قطرةَ ماءْ .. ومديح الحُكّام في مُعَلّقة قمم"، وكان يحبُّ بيتنا والشّجرات، ويحبّ فايز العبّاس وقبيلتَهُ ويذكر مآثرها في رسائله الأخيرة.

بإمكانك الآن يا طَلْعَتْ الاستغناء عن كلّ شيء أنا وتقصيري معكْ، أصدقائك القليلين .. مدينتك المُظلمة .. وحشةِ القبو فيما مضى وفرحِ انتقالك للبيت الجديد المؤقّت وأُجرَتُهِ .. تِبغِك الذي يسبّب أمراضَ الشّرايين وارتخاءَ الحواسّ ومتعة النَّفْثِ والشّاعريّة المفرطة في القراءة، وعلمِ الجمال الذي لم يستطعْ أحدٌ فهمَهُ سواك، والصّحف الرّديئة في الوطن والتّحقيقاتِ التي لم ولن ينشروها لأنّها تفضـحُ اللصوص، لك قلب واحد وروح واحدة موزعة على الناس/ ناسك، ولك حالات فقد كثيرة بدأت بأسرتك التي صارت في لحظة أثراً بعد عين وانتهت برحيلك المر في زمن الحرب المرةِ أيضاً.

التّوازن في المشي وركوب الدّرّاجة النّاريّة خلْفَ فؤاد عبّود وعبارتك الشّهيرة عند الألم "أوف يمّة". لم تكن تؤمن بالأحزاب العربيّة الشّموليّة منها والكرديّة أيضاً، كنت تؤمن بالله وحدَهُ بملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه والقضاءِ والقدر.

بإمكانك الآن يا طلعت الإنسان أنْ تتخلَّصَ من حالة العَرَج التي لازَمَتْك ثمَّ انتصرْت عليها حين كنت تمازحُنا متحدّثا عن شخصٍ بطيء المِشية: "أنا الأعرج أسرعُ منهُ.." بإمكانك الآن أن ترى عائلتَك القتيلة وأمّك الميْت.. بإمكانك الآن أنْ تطيرَ خفيفا كالعصافير ..

لا خبزَ بعد اليوم تحت الدَّرَج أيتها العصافير، لا أحدٌ سيتّصل حين أكون نائما فأقول له معتذراً كنت نائماً، لا أحدَ بعد اليوم يروّض خيلَ الكلام، بإمكانك الآن أنْ ترتفعَ رويداً رويداً بينما نحنُ نغطسُ في الطّين/ طينِ الحياة.

(سورية)
المساهمون