الطفل الذي كبر فجأة

08 يونيو 2015
كان يصرخ بشكل هستيريّ وقلبي يخفق بقوة (Getty)
+ الخط -
أحفظ وجهه جيّداً. كان الأكثر غرابة من بين كل الذين عرفتهم والأقرب إلى قلبي. بين الفينة والأخرى، يخرج من ذاكرتي كما دخلها للمرة الأولى، حين رأيت أمه تلفّه بين ذراعيها، كأنّها تلف عالماً بأسره. مرّت سنتان من دون أن أراه بسبب هجر أمّه بيتها الزوجي. رحلت الأم وأخذت قطعة مني. يومها بكيت كثيراً كما بكى هو. بكيتُ لأنه كان يمدّني بقوة عجيبة خفت أن أخسرها. قوّةٌ غيّرت مسار حياتي كلّها.

يشبهني علي كثيراً. يشبهني حتى في ملامح وجهه. فكرت أن في الأمر حكمة ما. "اسم الله خيّك (شقيقك)؟"، يتردّد هذا السؤال على مسمعي كلّما صادفنا أحدهم. "لا والله ابني"، أجيب. أبتسم بعدها ويضحك هو، كأن جوابي هذا يؤثر فيه. وحينَ تنتهي تمثيليتنا الصغيرة، نعود أدراجنا محمّلين بأكياس الشوكولاتة و"البون البون" الباهظة الثمن، لأن علي يحب العيش مثل وجهاء القوم.

علي في السادسة من عمره اليوم. أتذكّره وأسأل نفسي: هل يتغيّر الأطفال مثلنا؟ أهرب من السؤال. أشغّل التلفزيون، فأسمعُ أخباراً عن نساء معنّفات، يقتلن أمام أعين أطفالهن. يقفز علي إلى مخيّلتي مجدداً ويعتصر قلبي خوفاً عليه. أخاف عليه لأنني أدرك جيداً أنه جاء إلى هذه الدنيا من دون حب. هل تزوّجت أمّه ثانيةً؟ ماذا لو كان زوجها الثاني سيّئ الطباع أيضاً؟ هل لعلي اليوم شقيق يؤنسه؟ أسأل وأسأل حتى أتعب من التفكير.

أذكره حين كان يمسك قميص والدته، ويشدّها منه فلا تأبه. كان يصرخ بشكل هستيريّ وقلبي يخفق بقوة. كان والداه يتشاجران. حضنته ليلتها وأحاطني بذراعيه الصغيرين مطوّقاً عنقي. لم أقو لحظتها على النظر في وجهه. تحاشيت حتى نظراته. خفت وعرفت أنني لا أقوى على حمايته، وأن عذابه يتجاوز الحدود. لعنت والديه وأدخلته إلى الغرفة أسرد له قصة ما قبل النوم.

كان علي يجد لذّةً في تعذيب أبويه، كمن ينتقم لطفولته البائسة. ذات يوم اختفى من دون أي أثر يدلُّ عليه. جن جنون سكّان الحي فكان له ما أراد. بعد ساعات، عاد إلى البيت مبتسماً غير آبه لأحد. سألته أمّه لحظتها موبّخةً عن مكان اختفائه، فأجابها بلهجة ساخرة: "كنت عم طعمي البسّ (القط)". لكن علي كان يخاف القطط، وكنت أعرف ذلك جيّداً.

لعلي صديق خفيّ، أشعث الشعر، قصير القامة، بحسب قوله، اسمه نوّار. كان يحلو له أن يجلس في غرفته ويحدّثه لساعات. أراه يضحك ويشير بيديه كأنه يجادل أحداً ما. تارةً يدندن معه، وتارةً أخرى تجري دموعه على خدّيه. وحين أراه جالساً وحيداً، لا ينبس ببنت شفة، أعرف بأنّ نوّار لم يزره اليوم، لأنه في رحلة مع والديه في البحر، كما أسرَّ لي يوماً.

إقرأ أيضاً: أرض الحزن والفرح والبقشيش
المساهمون