الضمير

04 سبتمبر 2015
روبرت فولك/ روسيا
+ الخط -

لم تعد تحتمل أكثر. كانت مقتنعة بأنها لن تستطيع الصبر على وجود ذلك المتشرد الكريه مدة أطول. كانت عازمة على وضع حد للموضوع. قررت إنهاء الموضوع مرة واحدة مهما كانت العواقب فهو خير لها من تحمل طغيان ذلك الرجل.

قضت زهاء الخمسة عشر يوماً في ذلك الصراع. ما لم تفهمه هو تسامح أنطونيو مع ذلك الرجل. لا، حقيقةً كان تصرّفاً غريباً.

طلب المتشرّد المبيت ليلة واحدة: وقد صادفت تلك الليلة يوم أربعاء الرماد تحديداً. ساعتها كانت الريح تضرب بقوة جارفة معها غبار أسود مشحوناً، يجلد زجاج النوافذ محدثة صريراً جافاً. بعدها، هدأت الرياح وعمّ هدوء غريب في الأرض. فكرت حينها وهي تغلق دفوف الشبابيك.

- لا يعجبني هذا الهدوء.

وبالفعل، لم تكن وضعت ترباس الباب بعد عندما أتى ذلك الرجل. سمعت صياحه قادماً من الخلف، من بوابة المطبخ:

- يا صاحبة المنزل...

فزعت ماريانا. كان الرجل الشيخ رث الثياب هناك، يحمل في يده قبعة في موقف المتسوّل.
- يحميك الرب... قال الرجل. لكن عيون المتشرد كانت تنظر إليها بغرابة. على نحو قطع عنها الكلمات.

كان العديد من الرجال أمثاله يطلبون منها نعمة المبيت في ليالي الشتاء. لكن شيئا أخافها بشدة من ذلك الرجل دون سبب. بدأ المتشرد بترتيل اللحن ذاته "المبيت ليلة واحدة فقط في الإصطبل. كسرة خبز والإصطبل: لا أطلب أكثر. بدأت بوادر العاصفة بالظهور..."

وفعلاً، سمعت ماريانا في الخارج المطر الذي بدأ يقرع طبوله في أخشاب الباب. مطر أصم وغليظ، يعلن قدوم العاصفة قريباً.

- أنا وحدي - قالت ماريانا بجفاء - أعني... حين يسافر زوجي لا أحب وجود غرباء في البيت. إذهب، فليحميك الرب.

لكن المتشرّد بقي ساكناً ينظر إليها بهدوء. وضع قبعته على رأسه وقال:

- أنا شيخ مسكين. لم ألحق أذى بأحد قط. أنا أطلب القليل: كسرة خبز...

في تلك الأثناء دخلت الخادمتان مارثِلِينا وسالومي وهما تركضان. قدمتا من بستان الخضراوات والوزرة فوق رأسهما. كانتا تصرخان وتضحكان. أحست ماريانا بارتياح عند رؤيتهما.

- حسناً، قالت، جيد... لكن ستمكث هذه الليلة فقط. حينما استيقظ غداً صباحاً لا أريد رؤيتك هنا.

انحنى الشيخ مبتسماً وقال شعراً غريباً شاكراً.

صعدت ماريانا الدرج وذهبت إلى النوم. خلال الليل دكّت العاصفة نوافذ غرفة النوم ولم تنم جيداً تلك الليلة.

في الصباح التالي، عند نزولها للمطبخ كانت الساعة الموضوعة فوق الخزانة تشير إلى الثامنة. وبمجرد دخولها بقيت مستغربة ومغتاظة. كان الرجل يجلس على المائدة وهو هادئ ومرتاح وكان يأكل فطوراً فاخراً: بيض مقلي، كسرة خبز كبيرة طرية ونبيذ... أحست ماريانا بغضب شديد ممزوج على الأرجح بخوف. فواجهت سالومي التي كانت تقوم بأعمال البيت بهدوء:

- سالومي! - قالت وقد خرج صوتها حاداً وغليظاً - من أمرك بتقديم الفطور لهذا الرجل؟... ولماذا لم يخرج منذ بزوغ الشمس؟

كانت كلماتها تتقطّع وتشتبك بسبب الغضب الذي كان يسيطر عليها. بقيت سالومي مشدوهة والمرغاة في يدها تقطر على الأرض.

- لكن أنا... قالت: هو قال لي...

وقتها وقف المتشرد وببطء مسح شفتيه بأكمامه.

- سيدتي - قال- سيدتي أنت لا تتذكّرين... أنت قلت بالأمس: " أكرموا وفادة الشيخ المسكين وأعطوه سريراً في العلية وقدّموا له كل ما يطلب من الأكل" ألم تقل سيدة المنزل هذا بالأمس؟ أنا سمعت ذلك جيداً... أم ندمتِ الآن على قوله؟

أرادت ماريانا قول شيء، لكن سرعان ما تجمّد صوتها. كان الشيخ ينظر إليها بتمعن بعينيه السوداوين النافذتين. استدارت نصف دورة وخرجت من باب المطبخ صوب بستان الخضروات وهي مشغولة البال.

طلع النهار والسماء كانت ملبدة بالغيوم، لكن المطر كان قد توقف. ارتعشت ماريانا من شدة البرد. كانت النباتات مبللة وبعيداً غابت الطريق وسط ضباب خفيف. سمعت من خلفها صوت الشيخ وعن غير رضى شبكت يديها الواحدة مع الأخرى.

- سيدتي أردت التحدّث معك في موضوع.... هو موضوع عديم الأهمية.

استمرّت ماريانا دون حركة وهي تنظر صوب الطريق.

- أنا شيخ متشرّد... لكن أحياناً، المتشرّدون يحيطون علماً بأشياء. نعم: أنا كنت هناك. أنا رأيته سيدتي. رأيته بأم عيني...

فتحت ماريانا فمها. لكنها لم تستطع قول شيء.

- ماذا تقول أيها الكلب؟ قالت: أحذرك أن زوجي سيصل بالعربة في الساعة العاشرة وهو لا يحتمل سخرية من أحد.

- أعرف. أعرف أنه لا يطيق سخرية من أحد، قال المتسول. لهذا فأنت على الأرجح لا تودين أن يعرف... شيئا مما رأيت ذلك اليوم. أليس كذلك؟

عادت ماريانا سريعاً. كان الغضب قد اختفى، وقلبها يخفق في حيرة. ماذا تقول؟ ماذا تعرف...؟ ماذا رأيت؟ لكن لجمت لسانها. اكتفت بالنظر إليه وهي ممتلئة بالغضب والخوف. كان الشيخ يبتسم بلثّته المتّسخة والجرداء.

- سأمكث هنا فترة يا صاحبة المنزل الطيبة: نعم، فترة لأستجمع قواي إلى أن تخرج الشمس. لأنني شيخ ورجلاي تعبتا كثيراً. إنهما متعبتان جداً...

ركضت ماريانا ولامست الرياح الخفيفة وجهها. توقفت حين وصلت إلى حافة البئر. ويبدو أن قلبها كان سيخرج من صدرها من شدة الخفقان.

حدث ذلك أول يوم. بعدها، وصل أنطونيو على متن العربة. كان يحضر البضائع من بالومار كل أسبوع. وإضافة إلى كونهما صاحبَي نزل، كانا يمتلكان المتجر الوحيد الموجود في القرية. يقع بيتهما الواسع والكبير، المحاط ببستان خضراوات، في مدخل القرية، وكانا يعيشان في رخاء، وكان أنطونيو مشهوراً بغناه في القرية.

"مشهور بالغنى"، فكّرت ماريانا بقلق. أصبح وجهها منذ وصول المتشرّد الكريه شاحباً وفقدت الشهية للأكل. "وإن لم يكن كذلك، أكنتُ لأتزوج به؟ لا". لم يكن صعباً فهم سبب زواجها بذلك الرجل المتوحّش، الذي يكبرها أربعة عشر سنة. رجل متجهّم الوجه، مخيف ومنعزل. هي كانت جميلة. نعم: كل القرية كانت تعرف هذا وكانت تقول بأنها جميلة. كونسطانطينو أيضاً، وهو الذي كان متيّماً بها. لكنه كان مجرّد مزارع بسيط، مثلها. وهي سئمت من الجوع والأعمال والأحزان. نعم، سئمت من كل هذا. لهذا تزوجت بأنطونيو.

أحست ماريانا برجفة غريبة. مضت خمسة عشرة يوماً على دخول الشيخ إلى المنزل. كان ينام ويأكل ويزيل القمل بوقاحة تحت أشعة الشمس، في اللحظات التي تلمع فيها هذه الأخيرة عند باب بستان الخضروات. سأل أنطونيو في اليوم الأول:

- وهذا الرجل، ماذا يفعل هنا؟

- أثار شفقتي - قالت وهي تعصر أهداب الشال بين أصابعها- إنه شيخ هرم... والجو سيء جدّاً.

أنطونيو لم يقل شيئاً. بدا لها أنه متوجّه صوب العجوز لطرده من هناك. وركضت في الدرج إلى الأعلى. كانت خائفة. نعم، كانت خائفة جدّاً... "لو الشيخ رأى كونسطانطينو وهو يصعد إلى شجرة القسطل تحت النافذة. لو رآه وهو يقفز إلى الغرفة في الليالي التي يذهب فيها أنطونيو بالعربة..."ماذا عساه يريد أن يقول، إذا لم يكن هذا، بتلك الجملة التي قال فيها إنه رأى كل شيء، نعم، رأيته بأم عينيّ؟"

لم تعد تحتمل أكثر. لا: لم تعد تحتمل أكثر. لم يعد الشيخ يكتفي بالعيش في البيت. لقد بدأ بطلب المال. نعم بدأ بطلب المال أيضاً. والغريب في الأمر هو أن أنطونيو لم يعد للحديث عنه. كان يكتفي بتجاهله. كان ينظر إليها من فترة لأخرى فقط. وماريانا كانت تحس بثبات عينيه الواسعتين والسوداوين والمشرقتين وترتجف.

في ذلك المساء كان أنطونيو متوجّهاً إلى بالومار. كان يشد البغال إلى العربة وهو يسمع أصوات الغلام ممزوجة بصوت سالومي التي كانت تساعده. شعرت ماريانا بالبرد. "لا أستطيع أكثر، لم أعد أستطيع أكثر. العيش هكذا أمر مستحيل. سأطلب منه أن يرحل، أن يذهب. الحياة ليست عادية مع هذا التهديد".

كانت تحس بأنها مريضة. مريضة بالخوف. ما بينها وبين كونسطانطينو كان قد توقّف بسبب خوفها. لم تعد تستطيع رؤيته. كان مجرّد التفكير في ذلك يجعل أسنانها تصطك. كانت تعرف بأن أنطونيو سيقتلها. كانت متأكدة من أنه قادر على قتلها. هي كانت تعرفه جيّداً.

عندما رأت العربة وهي تختفي في الطريق، نزلت إلى المطبخ. كان العجوز ينام بجانب مواقد النار. أمعنت النظر فيه وقالت مع نفسها: "إن كنت أتمتع بالشجاعة لقتلته". هناك كان كلاّب الحديد في متناول يدها لكنها لن تفعل. كانت تعرف أنها لا تستطيع فعل ذلك. "أنا جبانة، أنا جبانة جدّاً وأحب الحياة" كان يضيّعها: "هذا الحب للحياة"..

أيها العجوز -صاحت رغم أنها تحدّثت بصوت خافت، فتح المتشرّد عيناً واحدة من عينيه الخبيثتين- "لم يكن نائما - قالت مع نفسها- إنه عجوز ذئب".

- تعال معي - قالت له- يجب أن أتكلّم معك.

تبعها العجوز إلى غاية البئر. هناك عادت ماريانا للنظر إليه.

- تستطيع فعل ما تشاء أيها الكلب. تستطيع أن تقول كل شيء لزوجي، إذا أردت. لكن أنت سترحل من هنا. ستذهب من هذا البيت على الفور...

صمت العجوز لبضع ثوان. وبعدها ابتسم.

متى يعود السيد صاحب المنزل؟

كانت ماريانا بيضاء. تأمّل العجوز وجهها الجميل، والدائرة المحيطة بعينيها. أصبحت هزيلة.

- اذهب - قالت ماريانا- اذهب حالاً.

كانت مصمّمة. نعم: قرأ المتشرّد في عينيها تصميمها ويأسها. كان يتمتّع بالتجربة وكان يعرف جيّداً تلك العينين. "لم يعد هناك ما نفعل"، قال مع نفسه بفلسفة. "انتهى الوقت الجميل. انتهى الأكل الكثير، انتهى السرير. انتهى المأوى. تقدم أيها العجوز الكلب. عليك بالمواصلة".

- جيد - قال- سأذهب. لكن السيد سيعلم بكل شيء.

استمرت ماريانا صامتة. كانت أكثر شحوباً على الأرجح. أحس العجوز سريعاً بخوف خفيف: إنها قادرة على القيام بأي بشيء. نعم: إنها واحدة من أولئك الأشخاص الذي يعلّقون أنفسهم في جدع شجرة أو ما شابه. أحس بالشفقة. كانت جميلة ولا تزال في مقتبل العمر.

حسنا – قال- لقد فزت أنت. سأذهب... ماذا سنفعل؟ في الحقيقة أنا لم أعلّق آمالا كثيرة قط... بالطبع، قضيت فترة قصيرة هنا. لن أنسى الأطباق التي تعدّها سالومي ولا خمر صاحب البيت... لن أنساه. سأذهب.

- الآن - قالت بسرعة- الآن، اذهب... وعليك الركض إن كنت تريد اللحاق به. يمكنك الركض بتلك الحكايات الرديئة أيها العجوز الكلب...

ابتسم العجوز بعذوبة. حمل عصاه وكيسه. هَمّ بالخروج، لكنه التفت عند السياج.

بطبيعة الحال أنا لم أر شيئاً يا سيدتي. ولا أعرف بالكاد إن كان هناك شيء ليُرى. لكنني قضيت أعواماً في الطريق، العديد من الأعوام في الطريق. ولا يوجد شخص واحد في كل العالم بضمير نقي ولا حتى الأطفال. لا، ولا حتى الأطفال يا سيدتي الجميلة. حدّقي في عيني طفل وقولي له: "أنا أعرف كل شيء!... احذر"، وسيرتجف الطفل بكل تأكيد. سيرتجف مثلك يا صاحبة المنزل الجميلة.

أحسّت ماريانا بشيء غريب، كأنها طقطقة في القلب. لم تكن تعرف إن كان مرّاً أو ممتلئاً بفرح عنيف. لم تكن تعرف. حرّكت شفتيها، وكانت ستقول شيئاَ، لكن العجوز أقفل باب السياج من ورائه والتفت لرؤيتها. كانت ابتسامته خبيثة عندما قال:

- نصيحة يا سيّدتي: راقبي أنطونيو زوجك. نعم: السيد أيضاً يملك أسباباً للسماح لشيوخ متسوّلين بالتمتّع في بيته. وأقسم أنها أسباب كثيرة، بسبب الطريقة التي كان ينظر إليّ بها.

كان الضباب في الطريق كثيفاً ويرى على علوٍّ منخفض. رأت ماريانا الرجل وهو يمشي إلى أن ضاع بعيداً.


* Ana María Matute روائية وكاتبة قصة إسبانية (1925 - 2014)

** ترجمة عن الإسبانية: إبراهيم اليعيشي

دلالات
المساهمون