الضاد عن بُعْد

04 ابريل 2020
غرافيتي في مدينة صيادة التونسية
+ الخط -

في أيّام الحَجر الاجتماعي التي باتت تعيشُها أغلبُ دول العالم، ومنها بلدان الوطن العربي، تُطرح بقوةٍ معضلةُ تدريس الألسُن عن بُعدٍ. فعلى حين غِرّةٍ، أُجبِرت المدارس والمعاهد والجامعات على إغلاق أبوابِها، كما وجد التلاميذُ والطلاب وكذلك الآباء أنْفسَهم دون مواردَ تعليمية تملأُ أوقات الدوام الدراسي وتوفّر لهم الموادّ الأساسية لتعويض ما يفوتهم من الأداء الحضوري.

ومن المعلوم أنّ تدريس اللغات عن بُعْدٍ نَشط في الغرب منذ أكثر من عقديْن، وأعْطى نتائج لافتة، لا يزال الـمُختصّون يقيِّمون جدواها. ومع ذلك، وجدَت مؤسساتُه التعليمية نفسَها اليوم عَزلاء، وهي تعاني وضع الحَجْر بعد أن خَلَتْ من مُرتاديها. لا تكفي مواردُها الشحيحة لسدّ الثغرات الكبرى وإمداد الطالبين بما يحتاجونه من الوثائق والتمارين والواجبات المنزلية.

ولا شكَّ في أن الحاجة في العالم العربي أشدّ، وافتقار معاهدها إلى هذه الموارد الرقمية أخطر، فهي لم تتعوّد على إنتاج مثل هذه الوثائق التي تتطلب صياغةً خاصّة وجمعاً متوازناً بين الأنشطة السمعية والبصرية، وبين الشروح النظريّة والتدريبات التطبيقية. كما أنَّ جلّ هذه المؤسسات، ولاسيما في البلدان العربية الفقيرة، لا تتوفر على البنية الرقميّة الأساسية كالمواقع والمدوَّنات الخاصة بكل مؤسّسة والتي تَضمن التواصل مع مُنتسبيها. ولا ننسى أنّ شريحة من التلاميذ لا تمتلك حواسيب وهواتف شخصيّة تمكنهم من التواصل مع مدارسهم واستخدام الوثائق التي قد تَجود بها عليهم.

وحتى لا يقتصر الحديث على الوصف السلبي لواقع التخلّف الرقمي الذي يصم الأوساط التربوية في بلداننا، رغم ما في بعضها من إمكاناتٍ افتراضية ضخمة، نرى أنَّ مِحنة غلق المعاهد بسبب تفشّي وباء كورونا، قد تَتَحوّل إلى مِنْحَة تُغني موارد العربيّة التدريسية وتثري بياناتها بنصوص وتمارين وواجبات، تترتّبُ حسب مستويات التحصيل والكفاءات التي يُسعى إلى اكتسابها.

أملنا أن تعمل الضّاد، خلال هذه الأزمة، على تطوير طُرُق تدرسيها للناطقين بها وللناطقين بغيرها، وذلك عبر إنتاج موارد جديدة وتنويعها، شريطةَ أن تُصنع هذه الأخيرة وفْقَ منهجية بيداغوجية واضحة وأن تُحترم فيها الضوابط التي أبانت عن نجاعَتها في تعليم اللغات الأخرى، مثل الإطار المرجعي لتدريس اللغات الأوروبية بمستوياته الستة.

ولا بد من التنويه هنا بما أعدته بعض المواقع العربية من برامج جيدة في تعليم العربية في الأوساط المهنية، فضلاً عن عشرات المواد الأخرى بمضامينَ مهمّة، تتألّف من نصوص وحواراتٍ وشروحٍ لقواعد النحو والصرف... وهو مجهود يستحق التنويه، على أن يصار إلى مزيد تنقيحه عبر تجريبه في الأقسام الحضوريّة ومعاينة مواطِن الخلل والقصور البيداغوجي، ومن أهمّها غياب التسلسل التصاعدي في اكتساب المهارات وعدم التكرار الكافي للكلمات والعبارات في النصوص، مع أنّه ضروري في كل عملية اكتسابٍ لغويٍّ، هذا فضلاً عن عدم ملاءَمتها بالنسبة إلى الناطقين بغيرها، إذ لا يزال بعض مدرّسي العربية يقدمون نصوصاً وقواعدَ بطرقٍ تجاوزها الزمن ولم يعد لها من جدوى في إتقان التّواصل السليم بالضّاد.

وقد تكون إحدى "فوائد" هذا العزل الاجتماعي أن يجتهد القائمون على تدريس الضاد في تنشيط آلية تعليمها عن بُعد، وإثراء مواردها التي ستكون في أوقات الأزمة البديل الجاهز الفعّال. وفي سائر الأيام، ستمثّل رافداً يُساعد على تكميل اكتساب المَهارات بشكل مستقلٍّ وحرٍّ.

يتطلّب هذا المشروع العاجل، بعد أن دخلت دول عربية تجربة التدريس عن بعد، التفكيرَ العميق في استراتيجية قومية تشمل سائر بُلدان العالم العربي لتجنّب البدء من الصفر كلّ مرّة واجترار نفس المضامين التي تنجزها كلُّ مؤسسة على حدة، مما يُشتت الجهود. تستحق الضاد هذه التضحيات وهي التي أمدّتْنا، ولا تزال، بأعز ما نملكه في وجودنا الهش: التفكير والتعبير.

المساهمون