الصفقة الإيرانية وقطاع العمل الدولي

20 يوليو 2015

محادثات أميركية إيرانية تسبق إعلان الصفقة في فيينا (Getty)

+ الخط -
يأمل قطاع العمل الأوروبي بارتفاع حجم الاستثمارات وانتعاش قطاع السياحة، بانتظار أفواج من السياح من وإلى إيران، إثر الصفقة النووية المبرمة بين إيران والمجموعة الدولية، كما تأمل أوروبا تحسّن أسواق النفط وانخفاض أسعار منتجات النفط والغاز الطبيعي، وتحسّن أداء قطاع إنتاج السيارات والطيران المدني، وفقًا لما نشرته صحيفة فايننشال تايمز. والصفقة ذات أبعاد تاريخية، وستمهّد لاستثمارات على مستوى عالمي، في أهم الأسواق الحيوية التي تشغل بال الإنسانية، وستحرّر أصول رؤوس الأموال الإيرانية المجمّدة في البنوك العالمية.
وكانت شركة Royal Dutch Shell البريطانية الهولندية العملاقة، وثاني أكبر شركات الطاقة العالمية، قد زارت إيران عشية الإعلان عن الاتفاق الشهير، وهناك محادثات ما بين شركات أميركية وأوروبية كبيرة مع ممثلين عن الحكومة في طهران، والعمل جارٍ لتحضير اتفاقيات مشتركة. ومن المتوقع ترأس زغمار غابرييل نائب المستشارة الألمانية وفداً تجارياً ألمانياً لزيارة إيران، في الأيام القليلة المقبلة، تلبية لمطالب قطاع العمل الألماني، الراغب بالاستفادة من الإمكانات المتاحة في الأسواق الإيرانية.

الرابح الأكبر
حسب مراكز بحث ودراسات استراتيجية غير قليلة، فإنّ الرابح الأكبر من الصفقة الإيرانية النووية هي الشركات العابرة للقارات، وخصوصاً في مجال الطاقة والاتصالات والقطاع المالي والبنوك، أمثلة على ذلك Citibank, JPMorgan, Goldman Sachs وغيرها، والتي ستقوم بتسهيل عمليات نقل المال والسلع إلى إيران، لكن الخبراء يؤكّدون كذلك أنّ النتائج المرجوة تحتاج بعض الوقت، مناخ العمل في هذا الاتجاه سيتحسن في الأشهر القليلة المقبلة، بعد سنوات من القلق واستدامة حالة عدم الاستقرار، أمّا الذروة المتوقعة لصالح قطاع العمل والطاقة فستحدث خلال عام على الأرجح.
ويرى المحللون كذلك أنّ الطريق نحو النمو الاقتصادي ستكون صعبة للغاية، لأنّ العقوبات الاقتصادية الدولية التي امتدت طويلاً، إضافة إلى السياسة العبثية التي اعتمدها الزعماء الإيرانيون، أدّت إلى هدم الاقتصاد الوطني في إيران، عدا عن توتر العلاقة مع المحيط العربي، نتيجة لتدخلها في الشؤون الداخلية لدول عديدة في الإقليم، ودعم الأزمات على خلفية طائفية، عدا عن الأداء البيروقراطي للمؤسسات الحكومية والفساد المتفشي في البلاد، وتدخل قيادة الثورة الإسلامية في الشؤون الاقتصادية بصورة مباشرة، الأمر الذي سيؤدّي، بصورة غير مباشرة، لعرقلة الاستثمارات والقطاع الإيراني الخاص.
بعد توصّل إيران إلى هذه الاتفاقية التاريخية، وتحمّل كل التعقيدات والحرمان والتهديدات القادمة من كل الاتجاهات قبل ذلك، والاستفادة، في الوقت نفسه، من السلبية العربية والاستسلام لوقع الأمور، وترك الأوضاع تسير بسكينة مطلقة من دون تدخّل من قريب أو بعيد، بشأن طبيعة البرنامج النووي الإيراني، مع علمها بحتمية إنجازه، يمكن التأكيد أنّ إيران تخطّت مرحلة العجز ووضعت قدمها على أرضٍ صلبة، ملأى بالتحديات، لكنّها خصبة وملأى بالإمكانيات والمقدّرات المالية على كل الأوجه والمجالات. تجدر الإشارة كذلك إلى أنّ قطاع النفط الإيراني وحده يحتاج قرابة 200 مليار دولار، حسب توقعات مراكز البحث والتقصي الاقتصادية، حيث أدّت العقوبات إلى انخفاض معدّلات الصادرات الإيرانية النفطية لقرابة 1.5 مليون برميل يوميًا، وتضع طهران أولويات استعادة مركزها السابق في أسواق النفط العالمية، والوقوف في وجه أكبر منافس لها في الإقليم، المملكة العربية السعودية.

ليست الإمكانات المتاحة فقط في قطاع النفط، بل تتعداها إلى قطاع وسائل النقل، وهو الأكبر في إقليم الشرق الأوسط، والأكثر تضررًا لتبعات الحصار الاقتصادي على إيران، حيث تراجع قطاع صناعة السيارات في إيران خلال الحصار إلى 50% في السنوات الأخيرة، وتأمل الشركات الإيرانية التمكن من استيراد قطع الغيار، لمواصلة تصنيع السيارات، واجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية، وخصوصاً شركات صناعة السيارات الفرنسية التي تتمتع بأولويات كبيرة في أسواق صناعة السيارات في إيران، وكذا الشركات الأميركية واليابانية.
وينسحب الأمر على صناعة الطائرات، حيث تسعى شركات الطيران الإيرانية إلى شراء 300 طائرة نقل في العقد المقبل، لتجديد أسطولها المدني الجويّ، مشروع يطرح للمرّة الأولى منذ 1979، وتمتلك شركة بوينغ الحظّ الأكبر في هذا السياق. وهناك إمكانات أخرى لرفع مستوى الاستثمارات، في مجال السياحة والمناجم والتقنيات الرفيعة والصناعة والبنوك.
يعتبر خبراء غربيون عديدون في الطاقة وأمن النفط أنّ إيران إحدى أهم الأسواق غير المهجنة في العالم، وإيران هي الدولة الرابعة بشأن حجم احتياطي النفط، وحسب Bloomberg تمتلك إيران 157.8 مليار برميل نفط، تكفي حاجة الصين أربعين عامًا. وصرّحت وزارة النفط الإيرانية إنّ البلاد ستستعيد مركزها قبل العقوبات في الأسواق العالمية، ويمكن لإيران رفع معدّل صادراتها من النفط بقرابة 500 ألف برميل يوميًا فور رفع العقوبات، وأخرى بعد مضي ستّة أشهر، لكن هذه الخطّة تتطلّب استثمارات أجنبية عاجلة، لأنّ الآليات والتجهيزات النفطية بحاجة ماسّة لصيانة وتحديث، قبل رفع معدّلات الاستهلاك.
وستؤدي عودة إيران إلى أسواق النفط إلى خفض أسعار النفط عالميًا، وعمليًا بدأت أسعار البنزين والديزل بالانخفاض في الأسواق الأوروبية بمعدلات بسيطة، خلافًا لما هو مألوف في فصل الصيف، حيث ترتفع أسعار مشتقات النفط، بسبب ارتفاع الطلب عليها، لغايات السفر والاستجمام. على المستوى البعيد، تأمل طهران باحتلال مركزها السابق في أوروبا، وتوريد 43% من حاجة الأسواق الأوروبية، وفقًا لتصريحات محسن قمصري، مدير قسم العلاقات الدولية للشركة الوطنية الإيرانية للنفط. لكن توقعات قمصري مرتبطة بتطور الأحداث في المستوى المنظور، فعلى إيران أن تثبت حسن نياتها بشأن الالتزام بشروط الاتفاقية، والتمكن من اجتذاب الاستثمارات الأجنبية لتحسين البنية التحتية لقطاع الطاقة، وتشير دراسات إلى حاجة إيران نحو 100 مليار دولار، لتحديث صناعة الغاز، وتحتاج نحو 200 مليار دولار، لتحديث قطاع النفط. حجم هذه الأموال الهائل يعادل قيمة الدين الخارجي لليونان، وستسعى الشركات العابرة للقارات إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من هذه المقدّرات.

الصراع الداخلي ورؤوس الأموال الأجنبية
من الواضح أنّ إمكانيات العمل المتاحة في إيران غير محدودة، في المساقات المذكورة. لكن، هناك تخوفات كبيرة من تبعات الصراع السياسي الداخلي في إيران ما بين المحافظين وتوجهات الرئيس حسن روحاني المنفتحة جزئيًا، خصوصاً بعد مضي سنوات من الانغلاق المصحوبة بالعقوبات الاقتصادية. عدا عن ذلك، لن تبدأ مرحلة رفع العقوبات الأولى قبل العام المقبل 2016، وتبقى المشكلة متعلقة بالمخاطر السياسية الداخلية التي ستلقي بظلالها على عقود النفط، وقد تلجأ الحكومة الإيرانية لتغيير بنود هذه العقود وتعديلها، الأمر الذي سيؤثّر سلبيًا على أداء شركة النفط الإيرانية، الوسط السياسي الإيراني الداخلي سيبقى أحد العوامل المؤثرة على العلاقات الإيرانية الخارجية، بعد رفع الحواجز القانونية تجاه إيران.
تعتبر الصفقة النووية بمثابة انتصار كبير للرئيس الإيراني، حسن روحاني، الذي راهن على جاذبيته وقدرته البراغماتية للتقرب من الغرب، ونجح في ذلك كما كان متوقعًا. لكن روحاني سيواجه تحديات كثيرة مع الفئات الأصولية المحافظة في إيران، في المرحلة المقبلة، ومن المتوقع تحميله المسؤولية كاملة، حال تراجع وكالة الطاقة النووية الدولية عن رفع التقرير الإيجابي المطلوب، علمًا أنّ آية الله خامنئي وافق على مضض على توجهات روحاني، للتوصل إلى اتفاق بشأن الصفقة النووية.
تتوقع فئات عديدة في المجتمع الإيراني أن يتمكن روحاني من تحقيق ما يصبون إليه من آمال وعلى رأسها رفع العقوبات وتحسين مستوى الحياة، ويطالب الإصلاحيون بدورهم بتقييم جهودهم عاليًا، والأخذ بالاعتبار أصواتهم الداعمة لتوجهاته.

للرئيس روحاني (66 عامًا) دور كبير في جمع الدعم لتحقيق الاتفاقية، وإقناع معظم فئات المجتمع الإيراني بقبولها، والتأكيد على أنّ الاتفاقية تصبّ، في نهاية المطاف، في المصلحة العامة للبلاد، من دون التوقف بالكامل عن تخصيب اليورانيوم، وإيران هي الرابح الأكبر على الصعيد الإقليمي، وقد تتمكن على المستوى البعيد، مهما طال الوقت، من تحقيق أهدافها النووية المدنية والعسكرية، وهي الدولة المعروفة بقدرتها على التحلّي بالصبر، واعتماد استراتيجيات طويلة الأمد، خلافًا لمحيطها العربي في إقليم الشرق الأوسط.
في هذا السياق، هناك دلالات واضحة لاختيار آية الله محمد يزدي رئيسًا لمجلس خبراء قيادة الثورة الإيرانية، في شهر مارس/آذار الماضي، وهو أحد كبار المحافظين في إيران، والمنافس القوي المرشح لخلافة آية الله خامنئي في منصب المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، ولم يتوقع المراقبون اختيار يزدي للمنصب، في ظل الأجواء الشعبية الداعمة للإصلاحيين في إيران. مواقف آية الله يزدي المتشدّدة للغاية، ورفضه الديمقراطية ومفهوم الجمهورية ضمنت له دعماً سياسياً واضحاً لدى الحوزات الدينية، وسيتولى هذا المنصب عاما واحداً، يخوض بعدها انتخابات جديدة، وحال فوزه ثانية سيكون المرشّح صاحب الحظ الأوفر لخلافة خامنئي. ولم يتوقف يزدي عن انتقاد الحركة الإصلاحية، كما أصدر قرارات صارمة تجاهم، إبّان توليه رئاسة السلطة القضائية. وسيترك الصراع ما بين الإصلاحيين والمحافظين في إيران أثره البالغ على العلاقات الإيرانية الخارجية، وسط شكوك بفتح الطريق أمام الإصلاحيين بصورة مؤقتة، لتمرير الصفقة النووية.

العقوبات رهن وكالة الطاقة النووية
حسب بنود الصفقة النووية، سيتم رفع العقوبات على مراحل، مرتبطة مباشرة بتقرير وكالة الطاقة النووية الدولية، ما يؤكّد على تطبيق إيران ميدانيًا ما جاء في بنود العقد. ووقعت الوكالة وإيران على خارطة طريق، لتوضيح قضايا الخلاف بين الطرفين في الماضي، والسماح لمفتشي الطاقة النووية بإعداد تقرير بشأن إمكانيات الآفاق العسكرية لبرنامج الطاقة النووية في إيران حتى نهاية العام 2015. ويأمل وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، إصدار تقرير إيجابي، في الأشهر الأربعة المقبلة، كي تتمكن إيران من تحرير أصول أموالها المجمدة بقيمة 100 مليار دولار. وقد صرح الرئيس الأميركي، باراك أوباما، إنّ الصفقة تجعل العالم أكثر أمنًا، لأنّها قطعت الطريق أمام إيران لتصنيع السلاح النووي. وردّ الرئيس روحاني إنّ الاتفاقية فتحت صفحة جديدة للعلاقات الإيرانية مع العالم الخارجي، وأنّ العالم اعترف أخيرًا بالنشاط النووي الإيراني. لكن، وحسب شاشانك جوشي، المحلل والخبير في المعهد الملكي البريطاني للدراسات، ردًا على أسئلة صحيفة كابيتال البلغارية، "تنتهي صلاحية العمل ببعض القيود المتعلقة بنشاط إيران النووي خلال 15 – 25 سنة، تتمكن إيران بعدها من رفع معدّلات تخصيب اليورانيوم"، ما يعني عمليًا تأجيل صناعة السلاح النووي إلى أجل مسمّى. الصمت العربي والسلبية التي أظهرتها الأنظمة العربية، في المراحل السابقة مثير للاستغراب، وكان حريًا بالدول العربية المعنية بالنشاط النووي الإيراني المشاركة في المحادثات لضمان أمنها القومي.

إعادة ترتيب إقليم الشرق الأوسط
تدرك أوساط كثيرة في إقليم الشرق الأوسط أنّ الصفقة النووية ستجعل من إيران الدولة الأقوى في الإقليم، ما يثير مخاوف وقلقاً، والإبقاء على حالة عدم الاستقرار. وسترفع الصفقة من حجم المواجهة الطائفية ما بين العالم الشيعي بزعامة إيران والسنّي بزعامة المملكة العربية السعودية، وحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC، فإنّ شأن تحرير مزيد من الأموال الإيرانية المجمدة سيسهّل من خوض إيران حروباً بالوكالة بدعمها التنظيمات التي تخوض حروبًا بالوكالة نيابة عن إيران، وفي مقدمتها حزب الله اللبناني الداعم نظام بشار الأسد، الأمر الذي سيؤدّي إلى تنشيط عملية الطرد المركزي للعراق، لتدور في فلك طهران بصورة أوضح من السابق، والإبقاء على تدفق شلال الدم في سورية. وهناك إمكانية كبيرة ومنطقية أن تقرر الرياض امتلاكها حقّ الردّ على البرنامج النووي الإيراني، ما سيفتح المجال لتنافس محموم للحصول على أسلحة ردع نووية ونوعية، في كامل إقليم الشرق الأوسط، بعد هيمنة إسرائيل واحتكارها السلاح النووي عقوداً طويلة.

ما تزال التحديات قائمة أمام إدارة الرئيس أوباما التي لا ترغب بالتراجع عن الصفقة، باعتبار إيران، حسب الجمهوريين، دولة حاضنة للإرهاب الدولي. ويتوقع أوباما أن تغير إيران من سياستها الخارجية، إثر توقيع الصفقة، ويدافع عن الصفقة ملمّحًا إلى اعتبار داعش عدوًا مشتركًا لكل من أميركا وإيران، وتأمل أميركا أن تقود إيران الحرب ضدّ داعش، لكن هذه الرؤية تأتي على حساب شعوب المنطقة، لإطلاقها العنان للمليشيات الشيعية، وتقديم المبرّرات لداعش، للمضيّ في نهج التذبيح والتقتيل والتكفير، من دون دعم الجهود الحقيقية لحلّ الأزمة الدامية في المنطقة، وتحقيق سلام دائم وشامل، ويلمّح أوباما كذلك إلى إمكانية التعاون المشترك مع إيران، لحلّ الصراع في سورية واليمن، وعدم تعويله كثيرًا على هذا الشأن في الوقت نفسه.

59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح