الصراع على أوكرانيا.. التحاق السياسات بأوروبا وأميركا أم بروسيا؟

01 مارس 2015

محطة غاز شرق العاصمة الأوكرانية كييف (2015/أ.ف.ب)

+ الخط -

عادت أوكرانيا دولة مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، لكنها غدت ساحة صراع بين روسيا من جهة والاتحاد الأوروبي وأميركا من جهة ثانية. فروسيا ترى فيها حديقتها الأمامية، ومدخلها إلى أوروبا، وحاجزاً واقياً من أي هجوم غربي محتمل، بينما يراها الاتحاد الأوروبي استكمالاً لوحدة أوروبا، وتراها أميركا قاعدة متقدمة لمحاصرة روسيا وتطويقها.

مع نهاية الحرب الباردة (قمة مالطا بين الرئيسين بوش الأب وغورباتشوف 1989)، وانهيار الاتحاد السوفييتي (1991)، شهد العالم توجهاً سياسياً دعا إلى تصفية بؤر التوتر والحروب، وإقرار السلم العالمي. فقد سادت، لفترة وجيزة، أدبيات البيروسترويكا التي بشّر بها آخر رئيس سوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، والتي تدعو إلى إقامة نظام دولي يعتمد "توازن المصالح" قاعدة له، وتعطي الأولوية للتعاون الدولي، ما يعني تراجع العامل العسكري، وإعطاء الصدارة في العلاقات الدولية للعاملين السياسي والاقتصادي. قاد هذا المناخ إلى بروز دعوات أوروبية إلى حل حلف الناتو، بعد أن غدا، بفعل نهاية الحرب الباردة وحل حلف وارسو وانهيار الاتحاد السوفييتي، بلا معنى أو هدف، وإلى قبول دعوة غورباتشوف إلى إقامة أوروبا واحدة من الأورال إلى الأطلسي، وإلى حل النزاعات الإقليمية بالطرق السلمية، وتقديم يد المساعدة للدول الفقيرة، لإخراجها من حالة الانهيار الاقتصادي والصراعات العرقية والسياسية.

غير أن أميركا رفضت هذا التوجه، وقاومته بقوة، فالمحافظة على "توازن القوى" قاعدة للعلاقات الدولية، وعلى حلف الناتو وتوسيعه وتعديل استراتيجيته وساحة عمله، اعتُبرت مصلحة أميركية. لذا، تبنت سياسات تدفع باتجاه تأزيم النزاعات، ودفع أطرافها إلى اعتماد الخيار العسكري. وعملت في القمة الخمسينية للحلف، في واشنطن عام 1999، على إلزام الحلفاء بتنفيذ مقرراته، والتي تبنت تحويل الحلف إلى مرجعية لقرار الحرب والسلم في العالم. فأميركا تنطلق من تصور مبني على ضرورة الوجود العسكري المباشر في عدد من الأقاليم حول العالم، لا سيما الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ومحيط البحر الأسود، بهدف السيطرة على التفاعلات الإقليمية السياسية والاقتصادية، ما جعل هدف توسيع الحلف يحتل موقعاً مركزياً في هذه الخطة.

لم يستمر حلف الناتو ويوسّع ساحة عمله فقط، بل واندفع بتوسيع عضويته، بضم دول أوروبا الشرقية، بما فيها بولندا ولاتفيا وإستونيا وليتوانيا، والسعي إلى ضم أوكرانيا، بالإضافة إلى دول أخرى محاذية لروسيا، مثل أرمينيا، والاقتراب من الحدود الروسية أكثر فأكثر، مستغلاً ضعف روسيا وارتباكها ودخولها في حالة انعدام وزن، في فترة حكم بوريس يلتسين، وجاء نشر أجزاء من الدرع الصاروخي في تشيخيا ورومانيا وتركيا، وأجزاء أخرى متحركة على ظهر ناقلات في دول البلطيق، ليثير مخاوف روسيا، لأنه يمنح أميركا فرصة توجيه الضربة الأولى، ويشل قدرة روسيا على الرد. ففي ذهن الروس مقولة هنري كيسنجر "روسيا ما زالت كبيرة، لذا فهي خطيرة".

تحفظت روسيا على عمليات التوسع، لجهة تعارضها مع التفاهم الذي تم بين الغرب والاتحاد السوفييتي في مفاوضات توحيد ألمانيا، لكن موسكو، مع التصريحات الرسمية الحادة التي ترفض توسع الحلف رضخت، ووقعت مع الحلف في 1997، عهد الرئيس يلتسين، "ميثاق باريس"، الذي فتح الباب أمام انضمام بولندا وتشيخيا والمجر إلى صفوف الحلف دفعة أولى. وبعد ذلك، وفي عهد الرئيس فلاديمير بوتين، تم التوقيع على "إعلان روما" في 2002، وجرى بموجبه تأسيس مجلس "روسيا ـ الناتو"، ومواصلة الحلف ضم مزيد من دول شرق أوروبا. تقبّل القادة الروس عمليات التوسع، حتى أن بوتين عندما وصل إلى السلطة، تحدث عن احتمال انضمام روسيا نفسها إلى الحلف.

مع رئاسة بوتين الثالثة، تبنت روسيا رؤية قائمة على "قوة الدولة وضمان ولاء الكنيسة الأرثوذكسية والتمسك بالقيم الثقافية العريقة"، واستراتيجية تقليدية، تبنتها روسيا منذ نهاية عصر القياصرة، تقوم على محورين: الجوار القريب والبعيد، هدف الأول استعادة ما تعتبره أراضٍ روسية ألحقت بدول الجوار، واستعادة نفوذها في دول الاتحاد السوفييتي، بذريعة حماية الروس والناطقين بالروسية. والثاني هدفه الحد من دور أميركا ونفوذها، ولعب دور كبير في القرار الدولي، عبر التحالف مع دول لها الأهداف نفسها (دول البريكس). وأطلقت، مستفيدة من تحسن سعر النفط والغاز، الذي مكّنها من تجاوز حالة العجز التجاري والمالي، وحوّلها إلى وضع إيجابي مع احتياطي نقدي كبير، سمح برفع الموازنة العسكرية، برامج اقتصادية وعسكرية، لإعادة التوازن إلى وضعها الداخلي وزيادة قدرتها على التحرك الإقليمي والدولي، لفرض حضورها وهيبتها، فعملت على تعزيز الوجود العسكري الروسي في الساحة السوفييتية السابقة، من خلال قواعد عسكرية في طاجيكستان وقرغيزيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وأرمينيا، ومن خلال تقوية منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضم حالياً ست دول، هي روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان وأرمينيا، ودعت إلى تشكيل اتحاد جمركي، يضم دول الاتحاد السوفييتي السابق تحت اسم الاتحاد الأوراسي، إطاراً موازياً ومنافساً للاتحاد الأوروبي.

وهذا يستدعي ليس منع دخول أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي، بل وتعزيز النفوذ الروسي فيها، وبناء علاقة سياسية مستقرة ودائمة معها، لما لها من أهمية جيوستراتيجية كبرى، باعتبارها الممر السهلي لروسيا، باتجاه أوروبا الغربية، وقد علّق زبيغينيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي في إدارة الرئيس جيمي كارتر 1977 ـ 1981، على ذلك قائلاً: "من دون أوكرانيا، لن تكون روسيا دولة عظمى". فأوكرانيا تقع في نطاق دبلوماسية "الجوار القريب" القائمة على صيغتين: إما بسط هيمنة موسكو بـ"الواسطة" على دول "الجوار القريب"، كما كان الحال مع أوكرانيا، وما هو حالياً مع طاجيكستان وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في منطقة القوقاز، أو تحييدها قسراً، ومنع انضمامها إلى حلف الناتو، كما الحال مع فنلندا وبيلاروسيا. لذا، اعتبرها بوتين حجر الأساس في الاتحاد الأوراسي، فبدونها يفقد الاتحاد الأوراسي معناه كلية.

استندت روسيا في سياستها الأوكرانية على قِدم وعمق العلاقات بينهما، ففي الأخيرة، كما تقول الرواية الروسية، ولدت الأمة الروسية والكنيسة الأرثوذوكسية، التي غدت الكنيسة القومية الروسية، بعد اعتناق روسيا المسيحية، فبالقرب من ميناء سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم، تم تعميد الأمير فلاديمير في عام 988، في أولى خطوات دخول المسيحية هذه البلاد. وقد مثّل استيلاء الروس على جزيرة القرم في 1773 تطوراً كبيراً في وضع روسيا الجيوستراتيجي، بعد أن أصبح لها، للمرة الأولى، ميناء في المياه الدافئة، وأسطولاً يصل إلى المتوسط.

لذا، لا يمكن حصر الآثار بالمكاسب، أو الخسائر، الاقتصادية المتوقعة، تبعاً لطبيعة التقارب أو التباعد بين البلدين، لأن الترابط العضوي الذي ترسخ على مدى قرون وضع أوكرانيا في رأس قائمة أولويات روسيا. فقد ظلت العلاقات بين البلدين أشبه بعلاقات بلد واحد، تفصل أطرافه حدود وحواجز وقوانين محلية (3.17% من سكانها من الروس و43 ـ 46% يتكلمون الروسية)، ويتطلع سكان الأقاليم الشرقية إلى تعزيز التقارب مع موسكو، وهذا لعب دوراً رئيساً في تحويل أوكرانيا إلى ساحة نفوذ أساسية للروس، ونافذة حيوية على أوروبا، لا يمكن فصلها من دون إلحاق أضرار كبيرة بروسيا، لأن التحاق أوكرانيا بالاتحاد الأوروبي سيعني التزامها بمواثيق مشتركة، منها اتخاذ سياسات دولية وإقليمية، تعارض مصالح موسكو، ناهيك عن ترجيح أن تكون خطوتها التالية الانضمام إلى حلف الناتو، ما يعني إحكام تطويق روسيا عسكرياً، ونشر الصواريخ الغربية تحت نوافذ الكرملين مباشرة، هذا بالإضافة إلى خسائر على الصعيد الاقتصادي ـ الصناعي كبيرة، ولا تعوّض. فقد تميّز النموذج الصناعي السوفييتي بإقامة مجمعات ضخمة، موزعة في فضائه، وبعد انهيار الدولة السوفييتية، تلاشت غالبية هذه المجمعات العملاقة، إذ لم يعد ممكناً استمرار مجمع صاروخي في العمل، مثلاً، عندما تنتج أجزاء منه في موسكو وأجزاء في كازاخستان، أو في أوكرانيا، أو بيلاروسيا. وقد ظلت أقسام المجمعات التي ورثتها أوكرانيا مرتبطة بصناعات مختلفة، في بلدان أخرى على رأسها روسيا. مثلاً تقدم مصانع أوكرانية تقنيات لازمة لصناعة المحطات الكهروذرية الروسية، ولمجمعات الصواريخ وغيرها من الصناعات الحيوية لاقتصاد البلدين. في الوقت نفسه، السوق الأوكرانية من أضخم الأسواق بالنسبة إلى الصناعات الروسية التي لن تكون، في الغالب، قادرة على منافسة الصناعات الأوروبية، إذا سارت الأمور وفق السيناريو السيئ لروسيا، ما يعني خسائر كبيرة لقطاعات مهمة وحيوية، سيكون عليها البحث عن أسواق جديدة، لتعويض خسائرها الفادحة.

وقد زاد حجم التداخل الاقتصادي الروسي الأوكراني الأوروبي في دقة وحساسية القضية، فالتجارة الأوكرانية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بروسيا وأوروبا، على حد سواء، فنحو 60% من حجم التجارة الأوكرانية تتم مع بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، كما أن أغلب منتجاتها الصناعية تأتي من المناطق الشرقية للبلاد، ذات الكثافة الصناعية الكبيرة. أوروبا تعتمد اعتماداً كبيراً على الغاز والنفط الروسيين. فالاتحاد الأوروبي يُعَد من الشركاء الاقتصاديين والتجاريين الكبار لروسيا، حيث تبلغ حصته في التجارة الخارجية الروسية نحو 50%، فنحو 36% من الغاز، و31% من النفط، و30% من الفحم من واردات دول الاتحاد الأوروبي مصدره روسيا. وهذا يمثل 80% من إجمالي صادراتها النفطية، و70% من إجمالي صادراتها من الغاز، و50% من إجمالي صادراتها من الفحم، بينما تؤلف حصة الآلات والمعدات الروسية أقل من 1%. فروسيا تحتل المركز الثالث، بعد الولايات المتحدة والصين، في التجارة الخارجية للاتحاد الأوروبي، بحصة تعادل 7% في صادراته و11% في وارداته. بينما تصدّر دول الاتحاد الأوروبي إلى روسيا منتجات البتروكيماويات 18% والمواد الغذائية 10% والسلع الاستثمارية والتكنولوجية من معدات وآلات نحو 45%. وفي مجال الاستثمارات، فإن 70% من الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد الروسي تعود إلى دول الاتحاد الأوروبي. وهذا يعكس الترابط العضوي بين الاقتصاد الروسي واقتصاد دول الاتحاد الأوروبي. وقد ظهر عمق التأثير المتبادل بين الاقتصادين الروسي والأوروبي، في ضوء الإجراءات العقابية الأولى التي اتخذها الاتحاد الأوروبي ضد شخصيات روسية وأوكرانية، موالية لروسيا، حيث اهتز الاقتصاد الروسي بقوة، فقد تراجعت السوق المالية الروسية، "مايسكس"، وفقدت 66 مليار دولار من أصولها في أيام، كما فقد الروبل 11% من قيمته، ما اضطرّ البنك المركزي الروسي للتدخّل، وضخّ 16 مليار دولار لاستقرار العملة (لدى البنك المركزي الروسي احتياطيات تقدّر بـ494 مليار دولار من العملات والذهب). كما انسحبت استثمارات تُقدّر بـ50 مليار دولار من الأسواق الروسية، ويُتوقّع أن ينكمش الاقتصاد الروسي، وأن تدخل روسيا في أزمة اقتصادية خطيرة.

تعكس حدة المواقف وسخونة المواجهة ما لنتائج الصراع على أوكرانيا من انعكاس كبير وخطير على الوضعين الجيوسياسي والجيوستراتيجي لأطراف الصراع، وخصوصاً روسيا، بسبب الكلفة المادية التي ستترتب على العقوبات الاقتصادية، وعلى الدخول في سباق تسلح وصراع على مناطق نفوذ في العالم، في ضوء اقتصاد هش، يعاني من نقطة ضعف بنيوية ثابتة، وهي اعتماده على تصدير النفط والغاز، وعلى مستقبل الصراع الدولي برمته.

6CA590C2-8659-4A0A-A922-01E9ECC0A639
علي العبدالله

كاتب سوري