الشيّاح: عبد الميكانيكي وأمّ علي

09 نوفمبر 2014
عبد الميكانيكي (Getty)
+ الخط -
لا داعي لأن أسأل أحداً عن الأزّقة وزواريب الضواحي، المنتشرة بكثرة حول المدن الكبيرة ومختلف العواصم العربية، حتّى أتعرّف على حياة سكّانها عن قرب. هناك، في تلك الأنحاء التي بدأت تزدحم مع استفحال الأزمات الاقتصادية والسياسية، حيث يسكن عادة الطلاب والفقراء وجموع العاطلين من العمل، تختلط وتتعارك الأمزجة والأفكار والميول على نحو علني وصاخب، إذ لا مسافة تحجب سكان هذه المناطق عن بعضهم البعض، كما لا فوارق طبقيّة كبيرة حتى تحدث بدورها فصلاً بينهم من نوع ثقافي أو اجتماعي.

ليس من الصعب إذاً أن أصدّق أن الأزقة والضواحي مليئة بالمخاطر، سواء كانت معمارية، أم بيئية أو حتى أيديولوجية وسياسية. فمنطقة الشياح كانت مسكني الأول بعد الحمرا. ترعرعت ونشأت على صفير زمامير الشاحنات، وخرير مياه القساطل المكسورة، وصراخ الأمهات إذ يؤنبن أزواجهن أو يأمرنهم بأخذ الأطفال إلى المدارس، يتبعها صوت لطمة "الكف" وهي تهوي على وجه الصارخة.

"أمّ علي"، امرأة من سكان الشياح البعلبكيين، الذين يعرفون بعشائريتهم وقوة شخصيتهم، تعيش في كوخ من الحجر والألومنيوم مع أولادها الستة. كانت أمّ علي من أقوى نساء حي المصبغة في الشياح حتى إنّ مسؤول حركة "أمل" في المنطقة كان يتفادى أن يلتقي بها، بصفتها المعبّرة عن غضب السكان واستيائهم من توتاليتارية الحركة في الحيّ. توفي زوجها عام 2004 إثر ذبحة قلبية. لم تحزن يوماً على وفاته، فكانت دائماً تقول لي "إذا طلعت مو منيح مع مرتك، إيه انشالله بتموت". كان أبو علي سلطوياً، متعصباً لعاداته الريفية المسيئة للمرأة، فكان يعامل زوجته مثل خادمة مكبلة بأسلاك حديدية من القرن الخامس عشر: "اغسلي، انشري، اكوي، اطبخي، نظفي، اهتمي بالأطفال، أشعلي الفحم للنرجيلة" وكان يرسلها لتعمل نادلة في أحد المطاعم في مطار بيروت الدولي. وعند كل نهاية شهر يستلم راتبها ويصرفه على القمار.

"عبد الميكانيكي"، وهو أيضاً مالك المبنى الذي كنت أسكنه، يعيش على إيجارات البيوت. متمسك بعاداته وتقاليده ومتديّن جداً ومتمسك بطائفته الشيعية. كنت ألقبه بالمنفصم، فهو تارة يكون مؤيداً لمبادئ أحزاب الضاحية الجنوبية لبيروت وعند كل اشتباك بين تلك الأحزاب يصبح معارضاً. هو أب لأربعة أولاد (محمد، فاطمة، سارا، مروى)، وزوج جيد. كان يربي أولاده تربية دينية، وكان يصرّ على تعليمهم تعليماً كاملاً إن كان مدرسياً أو جامعياً، لكن ابنه محمد ترك المدرسة في أوائل سنوات المراهقة، وفاطمة أكملت المدرسة لكنها لم تكمل سني الجامعة، أما بالنسبة لسارا ومروى فكانتا من أذكى وأبرع البنات دراسياً وكانتا توفران عليه أقساط المدرسة، حيث إنهما كل سنة كانتا تحصلان على منح تقديرية. تربيته الدينية لم تمنع أولاده من حريتهم الشخصية، باختيار الأصدقاء أو الأجواء أو تكوين مبادئهم الفردية الخاصة. لم يفرض عبد على بناته الحجاب أو حتى لامهن على طريقة لبسهنّ السافرة، كما لم يعارض خروجهن وعودتهن إلى البيت في وقتٍ متأخر. أما محمد فسلك الطريق الأخر، وأصبح منحرفاً. كان يقضي وقته مع أولاد الشارع، يدخنون النرجيلة ويتعلمون فتح سكاكين (الست طقّات)، ويشاركون في دورات تدريبية عسكرية، سياسية، أو دينية تابعة لحركة أمل. كنت أتفادى اللقاء به في الشارع، كان يكرهني كرهاً شديداً ويعتبرني مندساً بسبب اختلاف وجهات نظري عن المجتمع الذي كنت قد عاشرته سكنياً.

كان عبد الأكبر بين إخوته والأقل خبرةً بالعلم، فكان إخوته أطباء وجراحين وكانوا قد تخرجوا من أهم جامعات فرنسا، وأخواته متزوجات من رجال أعمال، لكنهم بكل أموالهم وخبراتهم المهنية المتطورة لم يضحكوني قط كل آخر شهر مثل عبد حين كان يستلم إيجار البيت مقابل أن يروي لي نكاتاً عن حركة أمل.
المساهمون